اختلفت الآراء، وتراوحت المواقف، وتناحرت الاتجاهات، وتناقضت التفسيرات، لكن اتفق الجميع على أن الوضع كارثي. استيقظ المصريون الخميس الماضي على خبر اختطاف سبعة جنود بعضهم من عناصر الأمن المركزي الملقبين شعبياً ب «أغلب خلق الله»، أي أكثر المصريين غلباً وفقراً في أثناء توجههم إلى وحداتهم المختلفة في شمال سيناء. وتوقعت الغالبية أن يحدث تطور مفاجئ، أو يطرأ حدث مباغت، أو يتفجر عمل مراوغ بعد مرور ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة، وهو ما لم يحدث، ما أدى إلى غليان مصحوب بغضب لا يخلو من شماتة. ولأن الشماتة في السياسة مسموحة، لأنها جزء لا يتجزأ من لعبة الصراع على الكرسي، تصاعدت الأصوات المعارضة المنددة بالميوعة الرسمية في التعامل مع الجنود المختطفين. لكن واقع الحال هو أن «الميوعة» تحولت «لزوجة» مع تضارب تصريحات ومداخلات وتأكيدات الزمرة المحسوبة على نظام الحكم، من رموز الجماعة وشخوص حزبها «الحرية والعدالة» ومتحدثي الرئاسة ومساعدي الرئيس (أو من تبقى منهم) وأحزاب الإسلام السياسي المتحالفة معها وتلك المطرودة أو المنسحبة من جنة التحالف أو كبار رجال الدولة. فمن الرئيس الذي طالب بالحفاظ على حياة الخاطفين والمخطوفين، إلى تأكيدات متناثرة بأن عمليات تفاوض تجري على قدم وساق، ثم تأكيدات مركزة بأن ملامح التفاوض لم تتبلور بعد، ومنها إلى تضارب بين هذه التأكيدات وتلك بأن التفاوض سبيل مشروع أو طريق مرفوض، وتبريرات بأن الرئيس مهتم بعدم إراقة أي دماء مصرية حتى وإن كانت للخاطفين وهو ما يمثل قمة احترام حقوق الإنسان. ولم يخل الأمر من إشارات سلفية إلى أن أي عملية عسكرية في هذا الصدد ستكون بالغة الكلفة، وأخرى جهادية تحذر من أن تحرير الجنود بالقوة جريمة، وثالثة ملوحة بأن التعامل مع سيناء سواء في ملف الجنود المخطوفين أو غيره لا ينبغي أن يكون من منطلق أمني بل من مدخل سياسي تنموي. وتطايرت نبرات شعبية تربط بين موقف الرئاسة المتسامح مع الخاطفين والمقدر لموقفهم وبين انتماء الجماعة الحاكمة الأيديولوجي وقربه من الجماعات الجهادية والسلفية المنتشرة في سيناء، وهي النبرات التي أخذت تعلو وترتفع لتملأ الفضاء الإلكتروني والتلفزيوني والواقعي. المصريون في وسائل النقل العام وفي تجمعاتهم الشعبية أمس لم يتحدثوا إلا عن «العساكر المساكين» و «الآباء الملتاعين» و «الأمهات البائسات» و «الدنيا التي لا تظلم إلا الغلابة». وعلى رغم أن جانباً كبيراً من «الغلابة» هم من أتوا بأول رئيس مدني منتخب إلى سدة الحكم لإيمان راسخ بإمكانات الجماعة الدينية التي تقدم لهم خدمات علاجية بأجور رمزية وأخرى تعليمية بالمجان وثالثة غذائية بنظام الصدقة والكفالة بل ورابعة ترفيهية تتكامل مع الدعوية، فإن شعور اللوعة وإحساس الرجفة جاءا منهم. ومن ثم، فإن التحرك الشعبي الاحتجاجي الفطري لم يأت ممن هتفوا «على القدس رايحين شهداء بالملايين» ولو على سبيل المجاملة، إذ توقع بعضهم أن يحولوا دفة الهتاف إلى «على سيناء رايحين نحرر المخطوفين»، بل جاء من أولئك البسطاء من زملاء المخطوفين الذي بادروا بإغلاق معبري رفح والعوجة رافعين لافتات مكتوبة بخط اليد وعامرة بالأخطاء الإملائية والنحوية لكن مغمورة بالغضب الفطري والتلاحم الشعبي مع أقرانهم. «فين مرسي؟ فين قنديل؟ فين أخواتنا المخطوفين؟»، أسئلة بريئة ومشروعة رفعها الجنود البسطاء لليوم الثالث على التوالي، ولم تجد رداً شافياً. وتمخض الجبل الرئاسي بعد أيام من اللقاءات ودعوات للحوار الوطني حول الأزمة لم تلبها سوى الأحزاب الحليفة، فولد تأكيداً على أنه «لا حوار مع المجرمين». لكن آخرين من داخل الجماعة رأوا أن التفاوض لا يفسد لهيبة الدولة قضية. هيبة الدولة صارت مثار حديث الناس في الشارع. فبين الترحم على الهيبة والتندر على الخيبة، جاهر المصريون البسطاء بأن التفاوض مع الخاطفين وتطويل مدة السكوت الرسمي إما جهل بأصول إدارة الدول أو تعاطف مع الخاطفين على حساب المخطوفين. جريدة «الحرية والعدالة» لسان حال الذراع الحزبية للجماعة خرجت أمس بعنوان عريض يحمل تطميناً ماليزياً لمصر في شأن النهضة المنتظرة مع صورة لرئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد ونائب مرشد «الإخوان» خيرت الشاطر. وعلى الجانب الأيسر خبر صغير عنوانه: «الرئيس يناقش تداعيات الجنود المختطفين مع قوى سياسية». «عم جمعة» حين قرأ الخبر قال: «حسبي الله ونعم الوكيل». الرجل الستيني نام أول من أمس على وقع دموع غزيرة لدى مشاهدة فيديو الجنود المختطفين وهم يناشدون الرئيس تحريرهم، واستيقظ على هم وطن يشعر بحسه الفطري أنه «جار اختطافه». وبينما «عم جمعة» غارق في همه وضرب الأخماس بالأسداس في كارثة الجنود المختطفين، إذ بصاحب رواية «باب الخروج» التي تنبأت روائياً بالكثير مما تنوء به مصر حالياً يخرج بحل تصوري من خلال تدوينة شخصية. كتب عز الدين شكري فشير انه لو كان «السفاح» (أحد أبطال روايته الذين حكموا البلاد) على قيد الحياة «لالتقى أهالي المخطوفين وزملاءهم في وحداتهم، مع التأكيد على أن كل أفراد القوات المسلحة وضعوا أرواحهم على أكفهم لحظة انضمامهم للمؤسسة العسكرية فداء لهذا الوطن، وأنه لا يمكن القبول بأمر يمس كرامة الوطن أو أمنه مثل المساومة مع من امتدت أياديهم بإيذاء أبناء الجيش المصري، وأنه يحتسب أبناءه المخطوفين شهداء عند ربهم أحياء يرزقون وبدء العملية العسكرية كرامة». التصور الروائي لفشير الذي أفضى إلى العملية العسكرية «كرامة» صاحبه تصور آخر للمؤسسة العسكرية أفضى إلى إعلان عملية «القبضة الحديد». لكن يبدو أن رجل الشارع مل القبضات، فظهرت تساؤلات تغريدية عدة وأخرى «فايسبوكية» عن مصير العملية «نسر» التي أعلنت في أعقاب مقتل 16 جندياً في رفح العام الماضي ثم اختفت فجأة، وما آلت إليه وعود الرد الشديد والتأكيد بعدم التفريط. ومع تأكيد عدم التفريط يأتي تأكيد عدم التنكيت في مثل الظروف العصيبة، لكن التأكيدات وحدها في الحالين لا تكفي، فالدعوة الرئاسية إلى الحوار الوطني في شأن أزمة الجنود المختطفين يأتي مع تدوينة على «فايسبوك» تقول إن «الرئاسة تدعو الأحزاب والقوى السياسية إلى وقفة بالشموع أمام معبر رفح في إطار تصعيد الضغط على خاطفي الجنود». لكن تظل الأسئلة الصعبة تدور في الشارع. هل خطف الجنود يحرج «الإخوان»؟ أم يحرج الجيش؟ أم يحرج الحركات السلفية الجهادية؟ أم يجرح الشعب؟