يحار المرء من تتابع الأحداث على الساحة العربية ويكاد يجد بينها خيطاً مشتركاً يتمثل في الاستهداف الشامل للوطن العربي كله من قلبه إلى أطرافه، فنحن أمام تحولاتٍ غير مسبوقة وتطوراتٍ غير متوقعة، إذ لا يمكن أن نتصور أن ما جرى منذ نهاية عام 2010 حتى الآن هو مجرد أحداث قطرية منعزلة أو ثورات شعبية متصلة. إننا نشعر أحياناً بأن هناك عقلاً واحداً يسيطر على ما يجري ويقوم بتوجيهه في مسارات قد لا تبرأ من روح التآمر ولا تخلو من دوافع خارجية وضغوط أجنبية تمكنت من وضع تصور مسبق لخريطة الدول العربية في محاولة لإعادتها إلى أوضاعها القديمة قبل ظهور الدولة الوطنية بتمزيقها من الداخل وتفتيت تلك الكيانات العربية بشكل يعطي الدولة العبرية اليد العليا في كل ما تقوم به وما تسعى إليه، ورغم أننا لا نؤمن بالتفسير التآمري لحركة التاريخ ومسار التطور إلا أننا نؤمن في الوقت ذاته بوجود المؤامرة في الحياة السياسية، ولعلنا نتذكر الآن نظرية «الفوضى الخلاقة» التي ابتدعتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، وأيضاً نظرية الداهية الأميركي ذي الأصل الألماني اليهودي هنري كيسنجر، عندما تحدث منذ عقود عدة عن «نظرية الغموض البناء». إننا أمام أوضاعٍ جديدة توحي برسم خريطة مختلفة للمنطقة وتدعونا إلى مناقشة ذلك من خلال المحاور التالية: أولاً: تحدث الناشط السياسي المصري اليساري كمال أحمد ذات يوم عن الدورة الشريرة لنظم الحكم في بعض الدول العربية والتي تتتابع فيها حلقات متتالية من الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي، إذ إن كلاًّ منهما يؤدي إلى الآخر، فالشعور بالقهر في الداخل يستدعي التدخل من الخارج بينما تؤدي السيطرة الأجنبية أيضاً إلى ظهور نظمٍ عسكرية أو فردية، أو حتى دينية تعتمد أسلوباً فاشياً يؤدي إلى نوع من الاستبداد السياسي مع غياب الديموقراطية واستئثار مجموعة بالحكم على حساب غيرها وهو ما يؤدي إلى الدخول في نفق مظلم اندفعت إليه بعض الدول العربية في ظل نظمٍ جاءت بعد ثورات شعبية جرى إجهاضها لمصلحة الفصيل السياسي الأفضل تنظيماً والأكثر جاهزية. ثانياً: نظر العالم إلى أحداث «الربيع العربي»، وهذا التعبير صناعة غربية، باعتبارها محاولة جادة للخلاص من الاستبداد والفساد والدفع بالشعوب إلى الأمام في مشروع نهضوي يرضي طموح الأجيال الجديدة المتعطشة إلى الحريات السياسية والانفتاح الاجتماعي ومسايرة العصر بكل معطياته وتحدياته ومشكلاته، ولكن الرياح جاءت بغير ما اشتهت السفن ووقع بعض دول الربيع العربي في مستنقع المؤامرات الإقليمية والتدخلات الأجنبية فضلاً عن الأبخرة السامة المتصاعدة داخلياً بعد رفع الأغطية عن القدور المكتومة عدة عقود من الزمان فأظهرت شعوب الربيع العربي في بدايات ثوراتها أفضل ما لديها ثم أظهرت بعد ذلك أيضاً أسوأ ما لديها. ثالثاً: لو أخذنا الحالة المصرية واحتمالاتها المختلفة كنموذج يؤكد محاولات استغلال أحداث الربيع العربي لتحقيق نوع من التفتيت الوطني والتفكيك القومي لوجدنا أن البدايات كانت إيجابية وتوحي بآمال كبيرة ولكن الذي حدث بعد ذلك هو أنها أخذت منحنيات مختلفة أدت إلى وضع لم يكن متوقعاً بالمرة، فلقد لاحظنا على سبيل المثال أن الثمانية عشر يوماً الأولى بعد الثورة كانت خالية تماماً من أحداث “التحرش"، وكانت العلاقة بين الشباب والشابات على مستوى راقٍ للغاية كما أن المجاملات بين المسلمين والمسيحيين في الميدان كانت هي الأخرى ظاهرة رائعة، حتى أن بعض المسيحيين كانوا يصبون مياه الوضوء لرفاق الثورة من المسلمين فاستبشرنا خيراً أيامها واعتبرنا أن ما حدث نقلة نوعية على الطريق الصحيح ولكن ما هي إلا أيام قليلة حتى عادت الأمور إلى سيرتها الأولى وواجهت مصر أحداثاً طائفية في منطقة الجيزة، من ضواحي القاهرة. وشاع التحرش الجنسي في شوارع المدن وسقطنا في بؤرة الانفلات الأمني والتدهور الأخلاقي مع تراجع هيبة الدولة ودخول الأفكار الخبيثة والاقتراحات الملتوية حتى أصبحت قناة السويس وسيناء وأرض النوبة وغيرها مساراً لأطماع وموضوعاً لمخططات تحاول النيل من الدولة المصرية العريقة وتقدم نموذجاً لتحول «الربيع العربي» إلى حالة من التفكيك القومي. رابعاً: إن ما جرى في العراق من تقسيم واقعي على الأرض وتفكيك لمفاصل الدولة العراقية، يؤكد هو الآخر أن الاستهداف مستمر وأن محاولة القضاء على السيادة الوطنية والوحدة الإقليمية هي أمور جاهزة تنتشر بشدة في المنطقة وتفرض نفسها على كل الأطراف، كما أن استهداف الوطن العربي بمحاولات التمزيق ليست جديدة علينا ولا غريبة، فالذاكرة القومية لا تنسى “سايكس - بيكو" ولا وعد بلفور ولا الخديعة الكبرى للعرب عند انتهاء الحرب العالمية الأولى ولا الأطماع المستمرة في ثروات العرب الطبيعية والبشرية. إننا نريد أن ندرك أن ما جرى وما يجري هو جزء من تصور مسبق لإعادة صياغة الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، فما إن فرغ الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية من تفكيك الاتحاد السوفياتي السابق وتفتيت شرق أوروبا إلا واتجه إلى النطاق الثاني وهو الشرق الأوسط الذي كانت تسميه الاستخبارات البريطانية من قبل باسم «الشرق الأدنى» حسب التعبير الذي صاغته وزارة المستعمرات البريطانية في مطلع القرن العشرين. خامساً: إن ما يجري في سورية هو مقدمة واضحة لتمزيق ذلك القطر العربي المتميز والذي كان يمثل دائماً القاعدة القومية والركيزة الثابتة التي يستند إليها الجانب العربي في صراعه مع إسرائيل، ونحن إذ نأسى لحجم الدماء التي تدفقت على أرض الشام، فإننا نشعر بأنه لا عودة إلى الأوضاع التي كانت قائمة من قبل، إذ إن النزيف الذي جرى على أرض سورية يؤكد لكل ذي بصيرة أن تفتيت سورية، ومن بعدها لبنان، وربما الأردن، هو امتداد لمحاولات تفتيت العراق ومصر ودول أخرى في الوطن العربي. لذلك، فإننا لا نتردد في تأكيد المعنى الذي نشعر به وهو أن الوطن العربي مستهدف وأن أحداث الربيع العربي ليست خالصة البراءة ولكن بعضها يبدو أقرب إلى الحق الذي يراد به باطل، كما أن المحصلة حتى الآن لا تدعو إلى الارتياح بل تشعرنا بدرجة من القلق المشروع على مستقبل المنطقة التي أصبحت مرتعاً للصراعات ومركزاً للأطماع وهدفاً للضغوط الأجنبية في كل اتجاه. سادساً: إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية الرابضة على الحدود الشرقية للوطن العربي يجب أن تكون إضافة إيجابية له وليست خصماً منه، ومع ذلك فالغرب يذكي الصراع بينها وبين العرب ويثير نعرات قومية تحت مسميات دينية هي أقرب إلى الماضي منها إلى الحاضر أو المستقبل، فإذا كان البريطانيون قد جاملوا أهل السنّة في العراق عام 1920، فإن الولاياتالمتحدة الأميركية قد حاولت هي الأخرى مجاملة الشيعة هناك منذ عام 2003، وكلا الاتجاهين مغلوط، فالفوارق بين الشيعة والسنّة من الناحية الدينية محدودة، فالقرآن واحد والنبي واحد والقبلة واحدة والشهادتان شرط مشترك فضلاً عن أن أركان الإسلام الخمس واحدة أيضاً ولكن الخلاف مصطنع لضرب وحدة المنطقة وتمزيق أوصالها ونحن نتمنى على الأشقاء في إيران أن يدركوا ما وراء السياسات الحالية في المنطقة وأن يعلموا أن الأمن القومي الإيراني مرتبط بالأمن القومي العربي خصوصاً في منطقة الخليج، وليدرك الجميع أننا أمام صياغة واعدة لمستقبل أفضل إذا ما اقتنع الإيرانيون والعرب أن الماضي وراءهم والمستقبل أمامهم و «الخليج الإسلامي» يربطهم. سابعاً: إن الدولة التركية صاحبة الميراث الثقيل في حكم المنطقة تستأثر هي الأخرى بدرجة من التأثير والتأثر في الشمال الغربي للإقليم العربي مع الاحتفاظ بعلاقات شبه طبيعية مع إسرائيل وغزل سياسي مع معظم العرب ودغدغة مستمرة لمشاعر المسلمين على أنقاض الإرث العثماني الذي رحل منذ منتصف عشرينات القرن الماضي. ويجب ألا ننسى هنا أن الطموحات التركية تريد أن تستخدم العرب من خلال دور شرق أوسطي يمكن أن تتقدم به أنقرة كأوراق اعتماد لدى الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً. هذه قراءة موجزة لتأثير ثورات «الربيع العربي» في الوحدة الجغرافية والمنظور التاريخي للمنطقة، وسوف نكتشف أن الأحداث أكبر مما تصورنا وأخطر مما توهمنا وأن تفكيك الأقطار العربية وتقسيم دول المنطقة الذي هو مطلب إسرائيلي قديم وحلمٌ لم يتوقف هو الذي جعل الدولة الصهيونية تمد ذراعاً نحو الفرات والآخر في اتجاه منابع النيل، لأنها تدرك أن التحكم في المياه هو تحكم في الحياة. إن الوطن العربي الذي عانى تاريخياً لا يزال حتى الآن يعاني حضارياً وثقافياً، لأن المشروع النهضوي الذي يفكر فيه البعض يحتاج إلى أسس راسخة للتقدم والبناء، للديموقراطية والتنمية، للحاضر والمستقبل. * كاتب مصري