كان من المفترض أن يكون «المؤتمر الدولي الثالث لحوار الأديان والحضارات» (10-12 أيار/ مايو) في سكوبيا فرصة لتسويق «جمهورية مقدونيا» كنموذج للتعايش الإثني والديني في وقت تمرّ هذه الدولة بظروف صعبة. ولكن مقاطعة ممثلي المسلمين في المنطقة أحرج الحكومة وأبرز جوانب جديدة من الأزمة التي تعيشها هذه الدولة التي كانت تسمى «برميل البارود» في مطلع القرن العشرين. وعلى رغم أن «جمهورية مقدونيا» استقلت عن يوغسلافيا منذ 1991 إلا أن مشاكلها لم تنته بعد، لا في الداخل ولا في الجوار، فاعترضت اليونان المجاورة على اسمها، الذي تعتبره من تراثها القومي، وقُبلت في الأممالمتحدة بالاسم المؤقت «فيروم» (اختصار «جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة») ريثما تحل المشكلة بالاتفاق مع اليونان. وعلى رغم تغيّر الحكومات بين اليمين واليسار في اليونان ومقدونيا طيلة عقدين من الزمن، إلا أن المشكلة لا تزال قائمة ولم تتمتع هذه الدولة بعد باسم يليق بها. ومع أن الاتحاد الأوروبي منح «فيروم» في 2005 وضعية «دولة مرشحة» للانضمام، إلا أن اليونان اعترضت على ذلك في انتظار حل الإشكال على الاسم، وهو ما لم يتم حتى الآن، مما حرم «فيروم» مزايا كثيرة. انتقام متبادل وفي المقابل، كانت ألبانيا وكوسوفو المجاورتين من الدول التي اعترفت بجمهورية مقدونيا، ولكن العلاقات المقدونية الألبانية تتوتر بحكم الأوضاع الداخلية في مقدونيا، حيث يشكل الألبان غالبية في غرب مقدونيا المجاورة لألبانيا وكوسوفو وحوالي 30 في المئة من السكان، بينما يشكل سلاف مقدونيا الغالبية في الشرق وحوالى 65 في المئة من السكان. ونظراً إلى أن السلاف في معظمهم من الأرثوذكس، والألبان في معظمهم من المسلمين، فقد كان التوتر بين المكوّنين الرئيسيين للدولة الجديدة يأخذ طابعاً دينياً في بعض الأحيان نتيجة لأوضاع الجوار، وخاصة مع ما صاحب انهيار يوغوسلافيا من عنف ملوّن بالدين. لكن دور «جمهورية مقدونيا» جاء في نهاية 2000 وربيع 2001، حين اندلع النزاع المسلح بين الطرف الألباني المطالب بالمساواة وبين الطرف السلافي الذي يحتكر تمثيل «الدولة القومية»، والذي أخذ شكل انتقام متبادل بتدمير مراكز العبادة (الجوامع والكنائس). ونظرا لخطورة تحول النزاع إلى حرب أهلية تهدد المنطقة، فقد تدخل الاتحاد الأوروبي بقوة وفرض في صيف 2001 توقيع «اتفاق اوهريد» الذي نص على تعديلات دستورية وإصدار قوانين جديدة منحت الألبان المزيد من المشاركة في الدولة والمجتمع وقننت استخدام لغتهم في الإدارة والتعليم العالي... إلخ. ومن هنا اعتبر «اتفاق اوهريد» تأسيساً ل «الجمهورية الثانية» (التي لا تزال تنتظر الاسم الرسمي لها) التي تقوم على المواطنة والمساواة والتعددية الإثنية والدينية وإطلاقا لضرورة الحوار والتفاهم بين المكونات المختلفة. وفي هذا السياق بادرت وزارة الثقافة منذ 2005 إلى احتضان فكرة مؤتمر دولي دوري بعنوان «حوار الثقافات والحضارات». فعُقد المؤتمر الأول في 2007 والمؤتمر الثاني في 2010 في اوهريد التي اشتهرت خلال الحكم العثماني بلقب «قدس مقدونيا»، بينما عقد المؤتمر الثالث في العاصمة سكوبيا بين 10و12 أيار(مايو) 2013. ومع أن الهدف من هذا المؤتمر كان تسويق «جمهورية مقدونيا» كنموذج ل «التعايش والتسامح الإثني والديني» إلا أن المؤتمر الثاني سبقته أزمة كبيرة بين الجهة المنظمة (وزارة الثقافة) وبين «الجماعة الإسلامية» التي تمثل المسلمين (حوالى 40 في المئة) وترعى شؤونهم الدينية والثقافية. وبدأت الأزمة عقب المؤتمر الأول في 2007، حين طالب رئيس «الجماعة الإسلامية» الشيخ سليمان رجبي بترميم أحد أهم الجوامع التي تعرضت لإحراق متعمد خلال النزاع المسلح في 2001 وهو «جامع السوق» في مدينة برليب الذي يعود تاريخه الى 1475. ونظراً للتباطؤ في الاستجابة، فقد تصاعد التوتر بين الدولة و «الجماعة الإسلامية» عشية المؤتمر الثاني في 2010، الى أن أعلنت الأخيرة مقاطعتها المؤتمر ودعت ممثلي المسلمين في البلقان والعالم الإسلامي إلى ذلك. وفي هذا الوضع، تم التوصل إلى اتفاق في اللحظات الأخيرة نتيجة للمساعي الحميدة التي بذلتها السفارة الأميركية في سكوبيا، فوافق رئيس الحكومة نيقولا غرويفسكي على إعادة ترميم الجامع وتم التوقيع على مذكرة تفاهم بين وزارة الثقافة و «الجماعة الإسلامية» في 5/5/2010، أي قبل ثلاثة أيام من افتتاح المؤتمر. ومع هذا الاتفاق حضر الشيخ سليمان رجبي وغيره من رؤساء المسلمين في المنطقة المؤتمر في اليوم التالي وبدا مع الابتسامات أمام كاميرات التصوير أن الأمور تجري على ما يرام فسارت أعمال المؤتمر الثاني من دون أن يلاحظ المشاركون الأجانب أي توتر بين طرفي الأزمة المكتومة. في هذا السياق من التفاؤل، وقعت في 29/7/2010 مذكرة تفاهم تنفيذية بين وزارة الثقافة و «الجماعة الإسلامية» لتقاسم نفقات ترميم «جامع السوق» في برليب باعتباره أثراً تاريخياً. ووفق هذه المذكرة، قدرت نفقات الترميم بأربعة ملايين دينار مقدوني (حوالى مليوني دولار) وقامت «الجماعة الإسلامية» بدفع حصتها البالغة مليون دينار . ومع هذا التقدم الذي حصل على الأرض عاد التوتر بين الجانبين بسبب تخلف الوزارة عن دفع حصتها ونتيجة لعرقلة تنفيذ الاتفاق من جانب بلدية برليب التي تمتلك الصلاحيات لإعطاء الإذن بترميم الجامع. وهكذا أصبح «جامع برليب» رمزاً ل «عدم الحوار» مع اقتراب عقد المؤتمر الدولي الثالث. وأصدرت رئاسة «الجماعة الإسلامية» بياناً أعلنت فيه مقاطعة المؤتمر الثالث قبل شهرين من عقده للضغط على الحكومة للبدء على الأقل بأعمال الترميم قبل المؤتمر، ولما لم تجد أي استجابة عادت وأكدت مقاطعتها المؤتمر قبل أسبوع من عقده ودعت ممثلي المسلمين في البلقان والعالم إلى مقاطعته أيضاً. ولكن هذه المرة لم يفد التهديد بشيء، إذ يبدو أن للحكومة حساباتها الانتخابية ولا تريد أن تثير ضدها الأوساط القومية المتشددة في المحافظات ذات الغالبية السلافية الأرثوذكسية. ولكن هذا أدى بالمقابل إلى صورة باهتة للجلسة الافتتاحية ل «المؤتمر الدولي الثالث لحوار الأديان والحضارات» الذي غاب عنه هذه المرة الشيخ سليمان رجبي وغيره من رؤساء المسلمين في الدول المجاورة (بلغاريا وألبانيا وكوسوفو والبوسنة... الخ) الذين كان حضورهم مع رؤساء الكنائس يوحي أن الأمور بخير في البلقان وليس فقط في «جمهورية مقدونيا».