وجد الفنان الليبي عمر جهان منتصف سبعينات القرن الماضي نفسه منفياً مطارداً من بلاده. غادر مصراته ومن ثم بنغازي الى القاهرة ليبقى هناك نحو 40 سنة. كان عمر جهان في تلك الفترة، قد عرف كفنان متميز يمثل اتجاهاً جديداً في الفن التشكيلي في ليبيا. اتجاه بدأ يفتح آفاقاً جديدة للوحة الليبية. وكان احد فناني ما يمكن وصفه بالموجة الثانية في الفن التشكيلي التي أعقبت جيل الرواد الاوائل، والتي كانت تبحث وتجرب أشكالاً جديدة وتدخل فضاءات اكثر انفتاحاً على العالم وتتفحص الذات والهوية من منظور آخر مختلف عن السائد. تصفُّح سيرة جهان الفنية يعني تصفُّح ما يقرب نصف قرن من ممارسة الفن التشكيلي، تلك التجربة التي بدأها مبكراً في مصراته وتواصلت في بنغازي ثم القاهرة. كان عمر جهان قد بدأ رسم بيئته المحلية ووجوه تمثل الانسان ومعاناته في الريف والمدينة في ليبيا، وكانت أعماله الأولى اقرب الى انطباعية سادت المشهد التشكيلي أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين. حقق جهان نقلة اخرى مثلت بحثاً آخر وحفراً أعمق في سطح المشهد. المشهد الريفي والنخلة كانا اهم مكونات ذلك المشهد ورموزه، وحمّل النخلة كل دلالات الجمال والعطاء، فظهرت لديه أنثى وبيتاً وقرية، ومدينة تتشكل. كانت الأمن والشبع والخصب، كانت «تانيت» رمز الخصوبة الليبي المنغرس في الأرياف وواحاتها المقاومة للتصحر منذ آلاف السنين. رسم جهان «اسكتشات» للمتظاهرين من الطلاب في بنغازي عام 1976، كان يشارك في التظاهرات ويرسم تلك الاسكتشات، واعتبرت أعماله قراءات لرقص الاجساد الفتية في مواجهة القمع والموت، خصوصاً انه في هذه الأعمال بدأ يتحرر من قيود اللوحة والمرايا. كانت الاشكال تتفجر من الداخل، والارواح تجتاز حيواتها وترقص في فضاء حر. انتقاضة الطلاب عام 1976 كشفت لجهان أبعاداً اخرى ظلت تكمن داخل فنه وروحه سنوات طويلة، كأنها رطب نخلته وقد شرع في التساقط. تلك التجربة لم تستغرق وقتاً طويلاً، كانت اياماً معدودة. كان يتظاهر ويرسم وكانت الاجساد تتساقط والارواح تتراقص في شوارع بنغازي، وكان الرسم في ايام جهان «تلك فعلاً «اشراقياً». خرج الى القاهرة مطارداً مهجراً من ليبيا واستقر هناك، في غرفة على احد سطوح المدينة، لتبدأ رحلة الجوع ورعب المطاردة. كان عليه ان يتعلم الصيام وان يلوك العلكة لساعات طويلة ليتعب الفم من اللوك وتنام المعدة منتظرة قدوم ما يؤكل! في القاهرة فتّش عن وطن طرد منه في فضاء لوحاته ودخل كهوف ليبيا. واعمال فناني ما قبل التاريخ الليبين لم تكن «نوستالجية»، بل كانت بحثاً عن جذور الفعل والتظاهر والرقص وأيضاً الموت والحياة في الوجدان الليبي العميق، لذا تمازجت «اسكتشات» بنغازي مع اعمال ما قبل التاريخ، ورقصت ارواح طلاب بنغازي واجسادهم مع ارواح صيادي ورعاة ما قبل التاريخ وأجسادهم. لا تتوقف تجربة جهان هناك، بل تتواصل ويخوض تجربة اخرى، هي تجربة «القناع» التي تمظهر الروح بكل اشكالها وحيلها وبراءتها ايضاً. اقنعة تطفح بالبراءة والطفولة والقوة والضعف، تقدم مفهوماً نقيضاً للمفهوم الشعبي عن القناع. فالقناع عنده، هو تمظهر الروح الانسانية في لحظة معينة وموقف معين، كأن يبحث الفنان عن وطنه وعالمه الضائع ويقدم تجليات الوطن والانسان والحياة والموت عبر الاقنعة. بعد الثورة عاد جهان الى وطنه والى مدينة مصراته تحديداً مسقط الرأس والبدايات ليبدأ مجدداً، منطلقاً في فضاء أرحب. ولكن العبارة تضيق عليه كالعادة، فيضج بأشكال جديدة تختزل تجربة نصف قرن من الرسم والتلوين والتأمل والتفاعل والكشف. من تداخل النخيل وأجساد المتظاهرين وصيادي ما قبل التاريخ واقنعة الولادة والموت والشهداء، وشيفرات المتصوفة والشعراء، ومن نثر الفقهاء والفلاسفة وضجيج العزلة وانهمار المعاني.