في رأينا أن أزمة البلدان العربية عقب انتفاضات ما دعي ب «الربيع العربي» تتحدد بكونها في أصولها وجوهرها أزمة حداثة. فالحداثة التي ميزت مجتمعات الغرب في عصر الأنوار وما جاءت به من تحولات تاريخية وحاسمة، ثوت وراءها مبادئ عامة وأساسية في الفكر والسياسة والاجتماع. أول هذه المبادئ إعطاء الأولوية للعقل الذي يفكر في استقلال عن إملاءات العقائد الدينية والمذاهب الأيديولوجية والضغوط الطائفية والعشائرية والقبلية. وثانيها تأكيد مبدأ الحرية الإنسانية وتلازمها مع الحداثة على المستوى السياسي من خلال عقد اجتماعي شكل منحى جديداً في إدارة شؤون الدولة على أساس المشاركة الحرة لكل المواطنين من خلال التشاور والحوار والمساواة التامة. ما مؤاده تلازم الحداثة والتنوير والليبرالية حيث يستحيل إنجاز أي إصلاح سياسي أو اجتماعي من دون خلفية ليبرالية. لكن انتفاضات «الربيع العربي» كرّست مواجهة خارج التحول الحداثي أو لا تمت إليه بصلة، مواجهة تدور رحاها بين دولة وأمة، كلتاهما لا تنتمي إلى الحداثة، دولة لم تستعر من الحداثة سوى آلتها القمعية المتطورة وجهازها الاستخباراتي والأمني متكئة على إرث مملوكي في الاستبداد لتصادر إرادات الناس وتقبض على أفكارهم وأحلامهم فتضيع بالكامل وتنحل استقلالية المجتمع إزاء دولة تفترسه إكراهاً واغتصاباً، وأمة تواجه هذه الدولة بأواليات مغرقة في الماضوية لم تستفد من ثورة الحداثة بل عمدت على العكس إلى إفراغ مقولاتها من مضمونها الليبرالي معتبرة الديموقراطية محض آلية للوصول إلى السلطة ولو كان في ذلك إعادة إنتاج للسلطة الاستبدادية إياها. لذلك، إن ما يجري في العالم العربي يفتقد روح الحداثة وثقافتها، ومن هنا فإن انتفاضاته مهددة أو محكومة بالفشل على رغم عدالة شعاراتها، فالأنظمة التي تطالب الانتفاضات بإسقاطها، لا يجادل عاقل في أنها يجب أن تسقط لأنها باتت متكلسة متخلفة فجة ولم يعد جائزاً استمرارها في قمع شعوبها والتحكم بمصائرها بعدما أناخت عليها عقوداً مظلمة كالحة. لكن أية بدائل طرحتها وتطرحها الانتفاضات في كل الأقطار العربية من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى سورية؟ هل هي إلا مراوحة في دائرة الاستبداد وتكريس لمقدماته؟ لعل ما كتبه عميرة علية الصغيّر أحد الناشطين في الانتفاضة التونسية، فاتحة الانتفاضات العربية، خير دليل على هذه المراوحة لأن المواجهة هناك كانت بين سلطتين غير حداثيتين، سلطة بن علي وسلطة الانتفاضة، وقد اشتركتا في الآفات نفسها. يقول الصغيّر: «زين العابدين بن علي لم يعد في السلطة ولا يزال نظامه في العمق قائماً، حتى إن كثيرين أصبحوا يحنون لزمن بن علي، كان على الأقل ضامناً نسبياً لأمن الناس... هناك إرادة سياسية لفرض نظام مجتمعي يظنه أصحابه إسلامياً، مجتمع لا جمال فيه، لا عقل فيه، مجتمع الشيوخ والمفتين، مجتمع الجلد والتحريم ومدارس القرون الوسطى». وفي ما كتبه ميشيل كيلو، أحد أكبر الناشطين في الانتفاضة السورية دليل آخر على المراوحة إياها، إذ يقول في «السفير» في 27/ 04/ 2013: «آلاف السوريات والسوريين المساكين ظنوا أنهم سيخرجون من الظلم بخروجهم من النظام وعليه، فوقعوا في ظلم لا يقل فظاعة عنه، لأنهم وقعوا بين أيدي مرتزقة، يكمل نشاطها جرائم النظام ضد الشعب». وفي مآل الانتفاضة المصرية غير دليل على الحداثة المأزومة من سعي «الإخوان المسلمين» الدؤوب إلى فرض «ولاية فقيه» سنّية على عموم المصريين، إلى إسقاط الوجوه الليبرالية العريقة للدستور المصري، إن في اعتباره السلطة التشريعية المنتخبة وحدها صاحبة الحق في تطبيق الشريعة، أو في إلغاء المادة 68 من هذا الدستور التي تنص على المساواة بين الرجل والمرأة، أو في الغاء المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي ناضلت نساء مصر من أجلها منذ أربعينات القرن الماضي. إن تجاوز هذه المراوحة المربكة والعقيمة لا يمكن أن يتحقق في نظرنا إن لم يتم تجاوز المقولات والمفاهيم المؤطرة لعقل الانتفاضات والتي تنتمي في معظمها إلى ما قبل الحداثة، فلا يجوز أن تبقى أيديولوجيات الانتفاضة غريبة عن منظومة الأفكار الحداثية في ما يخص حقوق الإنسان والمرأة والمساواة المواطنية الكاملة بعيداً من اجتهادات وتأويلات باتت مفوتة. فالخروج من الفضاء القروسطي إلى فضاء الحداثة بكل ما يعنيه من حريات مدنية ومساواة مواطنية هو الذي يضمن مستقبل الانتفاضة ويحول دون انقلابها على نفسها وارتدادها المأسوي إلى الوراء. * كاتب لبناني