لا يجد الشاعر المعروف عبدالله الزيد أي حرج في الإقرار بأنه «ينحاز لرمضان القرية ضد رمضان المدينة»... وهو في هذا الحوار يتحدث عن السبب في نضوب الرصيد الشعري وعدم قدرته على الأداء في موضوع شهر رمضانمستدركاً بأن الحالة الإبداعية لدى الشاعر في رمضان ينبغي لها أن تكون في قمة أدائها الشعري. ويرى الزيد أن العزلة المتبادلة التي يعيشها المجتمع في رمضان أدت إلى قتل الأرشيف الأدبي لهذا الشهر، فلم يعد ثمة إنتاج ثقافي وأدبي أو فكاهي يستقي مادته من ثراء التجارب الحياتية والذكريات الجميلة في رمضان.. فإلى الحوار. يرى البعض أن المبدع في رمضان يتوقف عن الإبداع أو تقل عنايته به، كيف تقوّم هذه الرؤية في نظرك؟ - أولاً: لا يوجد من وجهة نظري أي انفصام بين المبدع والإبداع، بل بعكس ذلك يتأكد الانسجام التام بين المبدع وإبداعه في هذا الشهر الكريم؛ بسبب أن الحالة الروحانية لرمضان تساعدني إبداعياً وهي من أجمل المواسم، ولعلي لو عدت إلى قصائدي لاستحضرت لك عدداً كبيراً من النصوص الشعرية التي كتبتها في شهر رمضان المبارك. لكن ظهور موضوع رمضان في الشعر والأدب العربي أصبح شبه معدوم، هذا مما لا يختلف عليه اثنان، فكيف تؤول ذلك ما دمت تقول إن شهر رمضان يثري بجانبه الروحي الإبداع في رمضان؟ - أتفق معك في هذا، فأنا إنما تحدثت عن النتاج الإبداعي وقدرة المبدع على الإبداع في شهر رمضان، وليس في موضوع رمضان، وأنا أتفق معك في انقطاع موضوع رمضان عن الورود في اهتمام الإبداع الأدبي، ولذلك في نظري سبب جوهري معقول جداً، وهو أن التجربة الإبداعية والمعاناة مع مثل هذه المواسم أصبحتا عاديتين جداً، واستهلك الموضوع نفسه في جميع الأشكال والأساليب الممكنة له، فليس هناك جديد، فما الذي سيضيفه المبدع عندما يتحدث عن رمضان أو الحج؟ القاموس محدّد ومفروغ منه، والموضوعات محددة ومنتهية، والتجربة بكاملها غير جديدة. ولا يفوتك بالطبع أن المبدع ينأى بنفسه عن السياقات المجمع عليها أو التي ليس فيها جديد، فلا يمكن أن يتطرق المبدع إلى رمضان باعتباره موضوعاً إبداعياً لشعره على سبيل المثال إلا أن يمر بتجربة شخصية فريدة من نوعها، أو يسقط عليه إلهام لفكرة غير مسبوقة يستطيع أن يسقطها من خلال الموسم أو شيئاً من هذا النوع. وهذا إنما نتج من أن تكرار الشهر الرمضاني كل عام أصبح موضوعاً إبداعياً عادياً، وإن لم يكن الموسم نفسه عادياً بحد ذاته من حيث الاستعداد والأداء الروحي فيه. لكنه أصبح موضوعاً عادياً نتيجة لتكراره. وأنت تعرف أن جذوة الإبداع تحرص دائماً على تقديم نفسها على أنها ضد العادي أو ضد الشيء المتكرر أو الشيء المتفق عليه مسبقاً. ولهذا فإنني عندما أقول شعراً في رمضان، فليس هنالك ما أقوله يزيد عن الحاصل في شهر رمضان، ذلك لأن القاموس متفق عليه سلفاً، ولا إضافات يضيفها الإنسان بحيث تشكل خصوصية لإبداعه أو فنه، وإذا لم يكن ثمة مجال أو موضوع جديد ينفرد به الفنان أو المبدع فلا موضوع للإتيان بإبداع جديد في موضوع رمضان. هل يمكن أن نقول إن رمضان يمكن أن يتحول إلى موسم روتيني بالنسبة للحالة الروحانية لدى المبدع؟ - لا أبداً، أنا إنما أقول إنه لا يوجد جديد غير موجود مسبقاً في مشاعر وروحانيات الإنسان الصائم، لا أنها ليست موجودة أو أنها ليست حية، لا تنس أن الإنسان بعامة سواء كان مبدعاً أو عادياً فهو في الدائرة الإلهية، وهي دائرة لا يمكن الإنسان مهما بلغ من التجديد والإبداع أن يقول فيها شيئاً غير ما هو موجود. الذي أقصده أنا يتعلق بالإبداع، لا بالاستحضار الروحاني الذي يعيشه الإنسان المبدع، فكلنا نستشعر الأنس الحقيقي بالموسم، ونعيش في سياق أيامه الجميلة، ونتوفر فيها على أنفسنا ونجد فيها من الحنو أكثر مما نجده في الأيام الأخرى. لنترك الشعر قليلاً: ألا ترى معنا أن الفنون الأخرى غير الشعر أيضاً انصرفت عن رمضان منذ عهد طويل، ولم تعد تعنى به كما نجده حاضراً بفكاهته وأدبياته الملفتة في تراثنا الأدبي؟ - ألاحظ أنك ارتكبت مخالفات عدة في سؤالك السابق، ما كان ينبغي لمثلك أن يرتكبها، وهي أنك تحاكم عصوراً متأخرة مثل عصرنا الحاضر بمعادلات وسياقات قديمة، أنت لم تستحضر تركيبة المجتمع في تلك الأيام التي حصلت فيها الفكاهات والقصص الكوميدية المتعلقة برمضان وبالمواسم المشابهة له. كيف كان المجتمع في العصور السابقة؟ - كان مجتمعاً حميماً، كان جميلاً، متصلاً ببعضه، كان الناس يعرفون بعضهم، لا يمكن لأحد في قرية أو تكوّنٍ سكّاني إلا أن يعرف كل من حوله ويتصل بهم. من هنا تنشأ تلك الحياة البشرية التي تنتج الحكايات والقصص الجميلة التي تتحدث عنها وتجدها في تراثنا الأدبي العريق. لكن لماذا لا نستطيع أن نسقط تلك الأشياء على الوقت الحاضر ونعيش موسمنا بالطريقة نفسها؟ - عندما نريد أن نسقط هذه الأشياء على الوقت الحاضر، فسنجد أننا نعيش عزلة كبيرة يعيشها الإنسان، فكون الإنسان لا يتصل بجاره أو أقاربه أو مجموعته، وفقد مفهوم الحارة التجمع السكاني الحميم، ولم يعد موجوداً الآن وبالتالي تنعدم تلك الحكايات التي تسأل لأنه فقد السيناريو المتعلق بها، وفقد الإنسان الذي يؤدي هذه الأشياء الجميلة، فمن الصعب والظلم أن نقارن أو نحكم على عهود سابقة لها سياقاتها وظروفها وشروطها ومن خلالها على ما هو موجود الآن. طبعاً ليس هناك أية صلة تصل بين ما هو موجود الآن وما كان عليه الأمر. ولاحظ سيدي أنه قد يمر الموسم العظيم كاملاً، دون أن ترى فيه أخاك أو صديقك أو جارك، ومن هنا يقفز السؤال الحاد: كيف يمكن أن تحصل هذه القفشات أو النوادر، وكيف لأرشيفنا الرمضاني أن يحويها ونحن على هذه الحال؟ هل يعني هذا أنك تتعنصر لرمضان القرية؟ - نعم ودون شك أو تردد، أنا أتعنصر لرمضان القرية على رمضان المدينة، ولكنني عندما أتحدث عن القرية فأنا أتحدث عن تلك القرية القديمة عندما كان رمضان جميلاً فيها، رمضان الذي لا يمكن أن نعيشه الآن، القرية التي أخذت تتشبّه بالمدينة إلى حد كبير.