«جامعة مانعة»، يقول الطالب عبد القوي نصر معلقاً على حادثة تنفيذ حكم قبلي شهدته أخيراً جامعة تعز وقضى بضرب شاب بالحذاء على وجهه في ساحة الجامعة قصاصاً لتحرشه واعتدائه على طالبة. وكانت ساحة الجامعة ذاتها مسرحاً لطقس مماثل تمثل بذبح ثور في ما يطلق عليه في الأعراف القبلية «الهجر». وتشهد الجامعات اليمنية تغلغلاً غير مسبوق للأعراف والتقاليد القبلية في وقت لم تخب بعد شعارات الثورة الشبابية التي أريد لها أن تضع اليمن على سكة الحداثة وبناء الدولة المدنية. وأكدت دراسة حديثة عجز الجامعات اليمنية عن مواكبة متطلبات التغيير، مشيرة إلى عدم وجود اختلاف بين الطلاب ومدرسيهم لجهة الجمود وغياب الثقافة التغييرية. وجاء في الدراسة التي أعدها الدكتور أحمد غالب الهبوب: «على رغم الدور الريادي الفاعل للشباب الجامعي في أحداث ثورة التغيير نجد أن القيادة الجامعية ما زالت غير مواكبة لعملية التغيير الجارية إذ لا يزال كثير من الجامعات تهيمن عليه التوجهات السياسية التقليدية». ويرشح من مداولات مؤتمر الحوار الوطني المعني برسم مستقبل اليمن، استمرار أزمة الحداثة في هذا البلد الموسوم بالقبلية، وهي أزمة ظلت لصيقة بتاريخ ما يسمى بالحركة الوطنية اليمنية وتعود تحديداً إلى انقلاب شباط (فبراير) 1948 حين بدأت النخبة الثقافية والسياسية تميل إلى استخدام العنف وتمجيد القبيلة. وحتى اليوم, ينخرط مثقفون وأكاديميون في إشاعة أجواء الكراهية والعنف التي شهدتها مناطق البلاد مثل محافظة صعدة وجنوب اليمن. ويتحدث تعزيون عن مظاهر سلبية تركها رجال القبائل المناصرون للثورة على الشباب التعزي، ويشيرون إلى انتشار ظاهرة «القعشة «البدوية (تطويل الشعر) وحمل السلاح وارتداء الزي القبائلي وعدم احترام القوانين. وتوصف تعز بكبرى المحافظات اليمنية كثافة سكانية، وعرفت بارتفاع عدد المتعلمين من أبنائها وهي مثلت المركز الثقافي الأول في الشمال والثاني على مستوى اليمن بعد عدن، وأخيراً تمت تسميتها عاصمة ثقافية دائمة لليمن؛ بيد أن تصاعد المظاهر غير المدنية بات يثير قلق النخبة فيها. ويرى المحامي والناشط الحقوقي غازي السامعي أن الحادثة التي شهدتها جامعة تعز بمثابة «كارثة ومؤشر ينذر بأن عقلية القبيلة امتدت وتغلغلت في المجتمع اليمني، ووصلت إلى داخل صرح أكاديمي وفي محافظة تعز تحديداً». ويعتبر السامعي ما اقترفه الشاب أمراً مشيناً ومرفوضاً ومستنكراً وجريمة، «لكن حل القضية بصلح قبلي يهدر الكرامة الإنسانية ويسيء إلى جامعة يفترض أن تكون منارة للعلم ومصنعاً للوعي. فهذا أمر يتعارض مع الدستور والقوانين اليمنية ويتنافى مع شرعة حقوق الإنسان». وما انفكت الجامعة اليمنية تعد المجسد الأبرز لتشوه الطبقة الوسطى بوصفها المعادل الموضوعي للتحديث ورافعته الأساسية. وكانت الأيديولوجيات الحديثة جاءت في حال اليمن على صورة غير بعيدة عن القبائلية. فتبني الماركسية على سبيل المثال خطابا يناوئ الطبقة التقليدية، لم يرادفه إحداث تغيير حقيقي على صعيد البنية الاجتماعية والاقتصادية المنتجة. وقوبل مقترح لممثلي الحزب الاشتراكي في مؤتمر الحوار الوطني يعتبر الشريعة مصدراً وحيداً للتشريعات، بانتقادات واستغراب البعض وخصوصاً أن الحزب ظل منذ هزيمته في حرب صيف 1994 يتباكى على الحريات ويتهم «المنتصر في الحرب» بتعديل دستور الوحدة ومنها تغيير الشريعة الإسلامية من «مصدر من مصادر التشريع» إلى «مصدر وحيد»، وها هو يعود اليوم ليقترح ما اتهم به خصومه. والحق أن الثقافة التقليدية تضرب جل النخب السياسية. وخلال الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد في 2011 بدت الطبقة المثقفة اليمنية وقد افتقدت لأي دور طليعي بل وتماهت مع الخطاب التقليدي في شكل يكرر سلوكها القديم. ومثال بارز على ذلك الشاعر الراحل محمد محمود الزبيري الموصوف بأبي الأحرار والذي انتهى به المطاف في ستينات القرن العشرين إلى مهادنة القبيلة وتمجيدها وتأسيس» حزب الله». اليمني ومن رفاقه الذين ما زالوا على قيد الحياة رجل الدين المثير للجدل الشيخ عبد المجيد الزنداني. ومراراً وتكراراً ظلت النخب الثقافية والسياسية تسقط في الماضي، فعلى رغم خطاباتها البراقة، قلما برهنت في ممارساتها على تجاوزه. وبعد أكثر من 15 شهراً على اختيار رئيس توافقي لم تظهر القيادات المحسوبة على الثورة أي قطع مع الماضي الذي طالما انتقدته؛ وكثير من هذه القيادات انغمست في الفساد. وفي المجال الأكاديمي، يرشح من التغييرات التي شهدتها الجامعات الحكومية استمرار نهج التعيين القديم القائم على مبدأ التمثيل القبلي. وتأتي الصراعات السياسية العنيفة مصبوغة بطابع القبيلة وثقافتها، وتلقي بظلالها على مختلف المجالات بما فيها الخريطة المدرسية. فبحسب معلومات رسمية، يعود تركز المدارس في بعض المناطق القبلية من دون غيرها إلى ظاهرة الثأر. فبعض القبائل تصر على بناء مدارس في مناطقها وإن لم يكن هناك حاجة موضوعية وإنما لرغبتها في عدم إرسال أبنائها إلى مناطق أخرى وإن قريبة خوفاً عليهم من الثأر. ويؤدي ذلك إلى تجمع المدارس في مناطق بعينها وتشتيت المدرسين وضعف توزيعهم. وكان الثأر القبلي امتد إلى داخل الجامعات اليمنية حيث تكمن المشكلة بحسب باحثين في أن «الدولة نفسها تتصرف كقبيلة والقبيلة كدولة». وتنتشر في اليمن ظاهرة الإعدام القبلي وتعني أن تسلم القبيلة الفرد المنتمي إليها والمتهم بالقتل إلى قبيلة المجني عليه لتعدمه فوراً أو تعفو عنه. ويعبر أستاذ جامعي يقول إنه تعرض لحملة تكفير وفصل من عمله على خلفية تدريسه رواية يمنية غير ممنوعة، عن يأسه من أي دور تنويري يمكن أن تقوم به هذه الجامعات في المناطق القبلية. ويكتب المدرس في كلية التربية في محافظة البيضاء أحمد العرامي، على صفحته على موقع فايسبوك، «إن افتتاح كليات في المناطق القبلية الأكثر تخلفاً قصد منه تفكيك منظومتها الثقافية، لكن هذه الكليات لم تفعل شيئاً، بل أعادت إنتاج السائد». ويعتبرالعرامي ما حصل له تجسيداً للتصالح القائم بين الجامعة والقيم السائدة. وأوصت دراسة الهبوب بإعادة النظر في التشريعات التربوية بما يضمن تفعيل دور الجامعات في نشر ثقافة التغيير وإخضاع عملية اختيار القيادات الجامعية للانتخاب الحر وتوفير مزيد من الحريات الأكاديمية وتحرير الحرم الجامعي من هيمنة القوى الأمنية والضغوط السياسية والمجتمعية.