لم يتأخر الرئيس الفرنسي الاشتراكي، فرنسوا هولاند، كثيراً في مبادرته إلى تصحيح السياسات الاقتصادية الفرنسية تجاه العالم العربي والتي أوجدت خلال عهد سلفه، نيكولا ساركوزي، حساسيات، خصوصاً نتيجة التعاطي التمييزي مع دول عربية دون أخرى، ما أدى إلى حال من عدم الثقة واختلال في التوازنات التي اعتادت فرنسا عليها في علاقاتها العربية، وصولاً إلى خسارة فرنسا للعديد من الفرص المهمة التي توافرت على مدى السنوات الأربع من حكم ساركوزي، والاستبعاد الكلي من عمليات استدراج العقود، خصوصاً في تحديث البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا، وتطوير الطاقة، وبناء شراكات إستراتيجية، سواء في بلدان الخليج أو في المغرب العربي. والأمثلة على الأخطاء في التقدير والتعامل أكثر من أن تُعد، وهي أساءت إلى الاقتصاد الفرنسي وسمعة مؤسساته التي حظيت على الدوام باحترام لجودة منتجاتها والنوعية المتقدمة تقنياً، حتى لو كانت أسعارها أعلى أحياناً مما تعرضه منافساتها الغربية والآسيوية، علماً أن الأخيرة نجحت بفضل أخطاء السياسة الاقتصادية الفرنسية وتنافس المجموعات الفرنسية في شكل منفرد، بعيداً من فهم واقع الدول العربية واحتياجاتها وإمكاناتها. ويذكر اقتصاديون ورجال أعمال في فرنسا كيف خسر كونسورتيوم مؤلف من أبرز المجموعات الفرنسية مثل «أريفا» و «توتال» و «إي دي إف» و «تاليس»، صفقة تاريخية لبناء مفاعلات نووية لإنتاج الكهرباء في أبو ظبي بلغت قيمتها 40 بليون دولار لصالح كونسورتيوم تقوده مجموعة كورية جنوبية. وكانت النتيجة قيام تحالف استراتيجي بين الإمارة الخليجية التي تبلغ قيمة موجودات صندوقها السيادي تريليون و300 بليون دولار، من جهة وحكومة سيول من الجهة الأخرى، ما فتح أبواب الصناعة التكنولوجية الكورية الجنوبية أمام الاستثمار الإماراتي، فيما سمحت الإمارة للشركات الكورية الجنوبية المتخصصة بالاستثمار في قطاع الطاقة، المصدر الرئيس لدخل أبو ظبي. كذلك خسرت شركة «ألستوم» مشروع خط السكة الحديد الذي يربط المدينةالمنورة بمكة المكرمة، ومشاريع في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، علماً أن مشروع السكة الحديد تبلغ قيمته أربعة بلايين دولار، انتزعته مجموعة اسبانية تقود كونسورتيوم منافس ل «ألستوم» الأولى عالمياً في تصنيع القطارات ذات السرعة القصوى. وحصل ذلك فيما كانت تتسابق وسائل إعلام ومسؤولون في فرنسا على التأكيد بأن المشروع «بات في الجيب». وتُضاف إلى ذلك، فشل صفقة مقاتلات «رافال» مع المغرب لصالح طائرات «إف 16» الأميركية. وفي الجزائر خسرت فرنسا صفقات مهمة بعد فشل توقيع معاهدة الصداقة التي كانت ستدر على المجموعات الفرنسية عشرات البلايين من الدولارات، وأبرز هذه الخسائر استبعاد المجموعات الفرنسية من صفقة الطريق السريع الذي يربط شرق البلاد بغربها والبالغة قيمته أكثر من 11 بليون دولار لصالح مجموعات صينية ويابانية، نتيجة موقف سياسي غير مدروس لوزير الخارجية الفرنسي، فيليب دوست بلازي، في عهد الرئيس السابق جاك شيراك. واضح اليوم أن هولاند وفريقه المتخصص بالعلاقات الاقتصادية، يدرك تماماً أهمية إعادة تصويب صيغ التعاون مع الدول العربية. والدليل هو الزيارات التي خصصها هولاند لعدد من بلدان العالم العربي بدءاً بالسعودية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 حيث التقى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لساعتين أدلى بعدها بالتصريح اللافت التالي: «لم آتِ إلى المملكة لتوقيع أي اتفاقات اقتصادية، بل لتعزيز العلاقات مع هذا البلد العربي الكبير». بعدها زار هولاند الجزائر ونجح في تدوير زوايا الخلافات التي ورثتها فرنسا عن العهد السابق تحديداً، ووقع نحو 15 اتفاقاً بهدوء وبعيداً عن الضجيج الإعلامي. وتجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبه المستشارون المقربون من هولاند ومن بينهم أشخاص من أصول عربية جزائرية مثل فوزي لمداوي وعدد من الفرنسيين الذين يعتبرون من أصدقاء الجزائر مثل رئيس الوزراء السابق جان بيار رافاران، الذي ضمه هولاند إلى فريقه على رغم انتمائه إلى اليمين وكلّفه متابعة ملف التعاون الاقتصادي مع الجزائر. وكانت الزيارة التالية إلى أبو ظبي وهدفت إلى تصحيح الأخطاء الاقتصادية التي ارتكبت في السابق، وجاءت عشية معرض «إيدكس» للدفاع الذي وقعت فيه شركات فرنسية عدداً من العقود بحضور وزير الدفاع الفرنسي. وزار هولاند في 3 و4 نيسان (أبريل) المغرب بهدف تعزيز العلاقات المتينة أصلاً، سياسياً واقتصادياً. كذالك أراد استعادة المرتبة الأولى تاريخياً لفرنسا في الشراكة التجارية مع المغرب بعدما سبقتها إليها إسبانيا في 2012. وتفيد معلومات الدائرة الضيقة المحيطة بهولاند بأن الرئيس ينوي إتمام جولاته العربية في الأشهر المقبلة. ويدور الحديث عن إمكانية زيارته لبعض الدول الخليجية في طليعتها السعودية والكويت. ويلاحظ مراقبون بأن ثمة إصراراً لدى الرئاسة الفرنسية على استعادة الدور الاقتصادي المفقود خلال السنوات الماضية. لكن يبقى السؤال: هل تملك فرنسا في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها على تحقيق سياساتها؟ وما هي الخطوات المستقبلية التي تنوي اعتمادها لتعزيز توجهاتها لإعادة التوازن الاقتصادي لعلاقاتها العربية؟ مدير مؤسسة «ساغا» للاستشارات الاقتصادية - باريس