منذ تدمير مفاعل تموز في العراق (7 حزيران/ يونيو 1981) وضعت إسرائيل خطة عسكرية ملزمة تقضي بتدمير كل أنواع الأسلحة المعدّة لمهاجمتها، لا فرق أكانت نووية أم كيماوية. ومع أن مناحيم بيغن وآرييل شارون كانا أول من تبنى هذه السياسة القائمة على تحدي القوانين الدولية، إلا أن نهجهما ما لبث أن أصبح جزءاً من برامج الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الحكم طوال ثلاثين سنة. ومن أجل الحصول على المعلومات السرية المتعلقة بأمن إسرائيل وسلامة مواطنيها، جند «الموساد» مئات العناصر، وزرعهم داخل الدول العربية وأوروبا وأفريقيا. قبل ست سنوات تقريباً، اختار الحرس الثوري الإيراني موقعاً نائياً في السودان الشمالي لبناء مصنع لتجميع الأسلحة، ومن ثم نقلها عبر الصحراء إلى غزة ولبنان. وبما أن سودان عمر البشير كان يعاني من حصار العقوبات الدولية، فقد أغرته طهران بتوقيع اتفاق يقضي بتأمين مراكز لوجيستية مستقلة يعمل فيها إيرانيون. وقد سمح الحرس الثوري لحركة «حماس» بتولي عمليات نقل الأسلحة إلى غزة عبر الصحراء السودانية. وفي كانون الثاني (يناير) 2010 قام عملاء «الموساد» بتصفية محمود المبحوح في دبي لأنه – وفق زعمهم – كان يرأس شبكة تهريب أسلحة وأموال. كذلك تبيّن، بعد حين، أن الطائرات الإسرائيلية دمرت المجمع الإيراني، وضربت سلسلة قوافل كانت متوجهة نحو غزة وهي محملة بأجهزة عسكرية متطورة بما فيها صواريخ «فجر». في ضوء هذه السياسة الردعية، قامت إسرائيل الأسبوع الماضي بغارتين ضد مواقع حربية سورية، مدعية أن الأهداف شملت شحنات من الصواريخ الإيرانية مرسلة إلى «حزب الله». وزعمت أن عناصرها الاستخبارية، المزروعة بين المتقاتلين، أنبأتها بأن صواريخ من طراز «الفاتح 110» معدة للتهريب إلى لبنان. وبعد اجتماعين طارئين للمجلس الوزاري المصغر، تقرر تسديد ضربة استباقية قبل سفر رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو إلى الصين. غاية الضربة – كما فسرتها الصحف الإسرائيلية – تأسيس مرحلة جديدة يمكن أن تطل منها إسرائيل على حلبة المشاركة في رسم مستقبل سورية. ويبدو أن فكرة التدخل في الشأن السوري ظهرت في برنامج الحكومة الإسرائيلية عقب تراجع نفوذ «ائتلاف المعارضة» و «جيش سورية الحر»... وازدياد نفوذ القوى المتطرفة مثل «جبهة النصرة» و «القاعدة» و «أحرار الشام» و «جبهة تحرير سورية» و «أحفاد الرسول.» وتُقدّر أعداد مقاتلي هذه المجموعات بأكثر من خمسين ألف نسمة. وهي عازمة على تشكيل إمارة إسلامية في سورية قبل تشكيل الحكومة الانتقالية المنوي إنشاؤها. السبب الآخر الذي شجع نتانياهو على عرض مقترحاته على الأميركيين والصينيين، هو تدويل الحرب السورية بعد مرور سنتين على بقائها اقتتالاً محلياً. أي أنها في السنة الثالثة تحولت إلى حرب إقليمية - عالمية جذبت إلى ساحتها كل الدول المعنية بمستقبل النظام البديل. صحيح أن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون صرح بأن بلاده لن تتدخل في حرب سورية، وأنها لا تؤيد فريقاً معارضاً ضد فريق آخر... ولكن الصحيح أيضاً أن إسرائيل تفضل استمرار النظام الذي نشر الهدوء على حدودها مدة أربعين سنة تقريباً. ولولا تخوفها من كسر ميزان القوى بواسطة صواريخ «الفاتح 110»، لما أقدمت على مغامرتها العسكرية برسم خط أحمر. وفي الدورة الأخيرة للجمعية العامة رسم بنيامين نتانياهو أمام مندوبي الدول صورة قنبلة ذرية، ثم وضع خطاً أحمر فوقها ليؤكد أن قدرة الاحتمال لا تسمح بتخطي خط الخطر. وعند هذا الخط سقطت قنابل التفجير في مدخنة المصنع النووي العراقي. وفي مثل تلك المدخنة سقطت قنابل التفجير في المنشأة النووية التي بنتها كوريا الشمالية في دير الزور (أيلول/ سبتمبر 2007). الأسبوع الماضي، رسم نتانياهو خطاً أحمر تحت كل عملية نقل سلاح من مخازن الجيش السوري إلى «حزب الله.» ثم سافر إلى الصين في زيارة رسمية اتُفق على موعدها قبل مهاجمة المواقع العسكرية في سورية. ووُصفت محادثاته مع قادة النظام بأنها «مفيدة»، كونها ركزت على محاولة تغيير تصور زعماء بكين عن المشروع النووي الإيراني، وعن كيفية استخدام طهران للعراق وسورية و «حزب الله» من أجل بسط نفوذها الإقليمي. القيادة الصينية انتقدت المغامرة العسكرية الإسرائيلية، محذرة من خطر تدهور الوضع وانتقاله إلى مواجهة مباشرة مع سورية أو «حزب الله.» واغتنم رئيس الصين الجديد شي جينينغ هذه المناسبة ليقنع نتانياهو بأهمية اجتماعه بالرئيس محمود عباس من أجل الاتفاق على صيغة تمهد لاستئناف المفاوضات المجمّدة. ولم يرفض رئيس الحكومة الإسرائيلية الاقتراح الصيني، ولكنه اشترط اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كمدخل لتحريك المحادثات. وسائل الإعلام الرسمية الصينية اكتفت بهذا المقدار من الأخبار. ولكنها لمحت إلى الهدف الأساسي من الزيارة التي أرادها نتانياهو أن تكون اقتصادية تجارية بامتياز، وأن تفتح الطريق لتبادل المعلومات والوثائق. ولهذا أرسل قبله رئيس الاستخبارات العسكرية أفيف كوخافي. وكما انتقدت بكين الغارة الإسرائيلية، كذلك فعلت غالبية الدول، بما فيها الدول المعارضة لنظام الأسد... والمؤيدة لتمرد الشعب. وهذا ما فعله رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، الذي ندد بالضربات الجوية الإسرائيلية، وقال إنها أعطت الحكومة السورية فرصة التستر على المجزرة التي حدثت في بانياس. وانسجاماً مع هذا التصور، استنكر «الائتلاف الوطني السوري» المعارض الهجوم الإسرائيلي، ولكنه أعرب عن ريبته إزاء توقيت العملية التي صرفت الأنظار عن المجزرة البشعة المُرتكبة في بانياس. الهجوم الذي استهدف منطقة عسكرية في دمشق، أطلق إشارات سياسية مقلقة أوصلت وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى موسكو... ودفعت وزير خارجية إيران علي أكبر صالحي إلى عمّان. ومع أن الموقعَيْن يتباعدان من حيث المسافات، إلا أن معالجة الأزمة السورية كانت الغاية الملحة التي تجمع بين الوزيرَيْن. الموقف الروسي كان بمثابة تكرار للمواقف السابقة التي تعتبر الرئيس بشّار الأسد عنصراً أساسياً من عناصر الحل السياسي. وبناء على هذا التصور طلب الرئيس فلاديمير بوتين من ضيفه الأميركي كيري العمل على تشكيل حكومة انتقالية من دون التطرق إلى مصير الأسد. والسبب أن الأسد سيكون الضامن الوحيد لاستمرار النفوذ الروسي في سورية، الأمر الذي يطمئن بوتين إلى بقاء أسطوله على المتوسط في مرفأ طرطوس. كما يؤكد له مواصلة الاعتماد على ترسانة روسيا في تسليح الجيش منذ أربعين سنة. ويرى المراقبون أن تشبث روسيا بهذا الموقف المبدئي سيُبعد إدارة أوباما عن كل حل يحفظ مصالح موسكو ونفوذها في البلد المتنازع على مستقبله. قبل أن يعود الوزير كيري إلى واشنطن، فاجأته المعارضة السورية بإعلان رفضها القاطع لأي حل سياسي لا يبدأ برحيل الأسد. وذهب قادة «الجيش الحر» إلى أبعد من ذلك، مطالبين بالحسم العسكري لأن اقتلاع جذور «البعث» يحتاج إلى عملية جراحية مؤلمة. وتعرض كيري للإحراج عندما سُئل عن ثمن الدمار الشامل وثمانين ألف قتيل، وذلك خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده قبل مغادرته. وأجاب متذكراً أن واشنطن دعت مراراً إلى رحيل الأسد، وقال: من المستحيل بالنسبة إلي شخصياً تفهم كيف يمكن سورية أن تُحكم في المستقبل من قِبَل الرجل الذي ارتكب «الأشياء» التي نراها! ثم استدرك قائلاً: لكنني لست أنا الذي يقرر... وتحدث الوزير سيرغي لافروف مكملاً: أن روسياوالولاياتالمتحدة ستفعلان ما بوسعهما لتأمين جلوس الحكومة والمعارضة إلى طاولة المفاوضات. الموقف النهائي الأميركي يطل قريباً من خلال مشروع قانون قدمه إلى مجلس الشيوخ السيناتور الديموقراطي روبرت مننديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، وفيه يطالب بإرسال أسلحة إلى فريق من المعارضة. وكي يصبح المشروع قانوناً، يجب أن يحظى بموافقة مجلسي الشيوخ والنواب، وأن يوقعه الرئيس باراك أوباما. ويتضمن مشروع القانون إنشاء صندوق للمرحلة الانتقالية بقيمة 250 مليون دولار لمساعدة المعارضة المدنية في مجال الخدمات. كما يتضمن أيضاً فرض عقوبات على كل دولة تبيع أسلحة إلى حكومة الأسد. المفاجأة الأخرى بالنسبة إلى دول الجامعة العربية كانت الزيارة التي قام بها إلى الأردن وزير خارجية إيران علي أكبر صالحي. ولم يُعرف بعد ما إذا كانت هذه الزيارة تمت بالتنسيق مع موسكو... أم إن الأسد هو الذي اقترحها. خصوصاً أن ما أعلنه الزائر الإيراني ينسجم مع طروحات لافروف وكيري. قال صالحي في المؤتمر الصحافي المشترك مع وزير خارجية الأردن ناصر جودة: «نؤمن بوحدة الأرض السورية ومتطلبات الشعب المشروعة. لذلك، طالبنا المعارضة أن تجلس مع السلطة وأن يشكلا حكومة انتقالية، لأن تداعيات الأزمة ستنعكس على دول الجوار والدول الأخرى.» ويُستخلص من مضمون الحل أن الطرح الإيراني لا يختلف في جوهره عن التسوية المقترحة في لقاء موسكو. المهم أن الولاياتالمتحدة هي التي فتحت صفحة الأردن في كتاب حاولت عمّان إبقاءه مغلقاً حيال أحداث المنطقة. ففي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي قال وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، إن بلاده عززت وجودها العسكري في الأردن عندما أرسلت مئة وخمسين من جنود القوات الخاصة في إطار مهمة مراقبة الأسلحة الكيماوية السورية. وقال أيضاً إن هؤلاء الجنود سيساعدون الأردن على إقامة قيادة عامة لإدارة العمليات المتعلقة بسورية. وكان بهذا الكلام يشير إلى تزايد تداعيات الأزمة السورية على أمن الأردن ووضعه الاقتصادي باعتباره يحتضن ما نسبته أربعون في المئة من عدد السكان فرّوا بفعل المعارك الدموية بين قوات الأسد والمعارضة. ووجه بشار الأسد في حينه رسالة تحذير إلى الأردن قال فيها: «نتمنى على بعض المسؤولين الأردنيين الذي لا يعون خطورة الوضع في سورية، وما يحمله من سلبيات على سلامة بلادهم، أن يكونوا أكثر وعياً واهتماماً بهذا الأمر، لأن الحريق لن يتوقف عند حدودنا!». جواب الحكومة الأردنية أعطيَ في شكل توضيح على مخاوف الأسد وتحذيره: «ليس للقوات الأجنبية وجود على الأراضي الأردنية. وإنما هناك علاقات استراتيجية قديمة لا تتعلق بالشأن السوري بمقدار ما تتعلق بالتسلح والتنسيق. أما بالنسبة إلى الجنود الأميركيين، فإن دورهم يقتصر على التدريب والوقاية من خطر حرب كيماوية في حال حدوثها». عقب عودة الملك عبدالله الثاني من واشنطن، حيث التقى الرئيس باراك أوباما، سرّبت المعارضة الأردنية أخباراً تشير إلى تدريب قوات تابعة للائتلاف السوري المعارض. وادّعت أيضاً أن عمّان تسعى إلى إقامة منطقة حدودية تكون محمية دولياً بإشراف الأممالمتحدة، على أن يلجأ إليها الهاربون من القتال. في إيضاح آخر، اعترفت الحكومة الأردنية بعجزها المادي عن استيعاب مليون وربع المليون نازح سوري. وبما أن المساعدات الدولية المرسلة للاجئين لا تكفي لإيوائهم، فإن الأردن يحاول التخفيف من أثر هذه الأزمة على وضعه المحلي. ويبدو أن زيارة الوزير علي أكبر صالحي كانت تتعلق بهذا الموضوع، مع كل ما تستدعيه الحاجة لإنشاء لجنة سياسية مشتركة تقف على متطلبات الأردن وعلى رغبات طهران. والغاية من كل هذا اتخاذ موقف محايد تجاه سورية التي تعتبرها إيران حليفتها الأولى، وأن انهيارها يؤدي إلى انهيار كل مشاريع نفوذها على البحر الأبيض المتوسط! * كاتب وصحافي لبناني