يقولون إنها سمة العودة من الإجازات، ويصفونها بأنها نتيجة الحرارة المرتقعة التي ضربت أرجاء البلاد، وينعتونها ب «بوست فسيخ سيندروم» أو عرض ما بعد تناول الأسماك المملحة في يوم شم النسيم، لكنها في واقع الأمر لم تكن إلا فتوراً شعبياً شديداً وبروداً حماسياً عتيداً وفقدان أمل شبه كامل في أن يأتي «شاهين» بما عجز عنه «ألضو». المقولة الشعبية المصرية التي فرضت نفسها يوم أمس على الشارع والواقع الافتراضي كانت «شالوا ألضو وجابوا شاهين» وهي المقولة التي يستخدمها المصريون للدلالة على أن الأوضاع كلها في السوء سواء. صوت شيرين المتسائل بنبرة لا تخلو من لوم كان يصدح من نوافذ سيارة الأجرة: «ما شربتش من نيلها؟»، فيبادر مؤكداً: «لأ ماشربتش»! وتعيد الكرّة: «طيب جربت تغني لها؟» فيزداد عناداً ويصيح: «لأ ماجربتش»! وفي محاولة أخيرة تسأل في محاولة للابتزاز العاطفي: «جربت في عز ما تحزن تمشي في شوارعها وتشكي لها؟»، وهنا ينفجر السائق غاضباً: «لأ لأ كفاية بقى»! لكن مؤشر المذياع الذي يتحوّل من دفة أسئلة شيرين الاستنكارية إلى دفة التعديل الوزاري يؤجج غضب السائق الذي يصبّ لعنات الشلل المروري والشمس الحارقة وكيلو الفسيخ الذي اشتراه للعيال في شم النسيم ب 60 جنيهاً والوقود الشحيح على رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل، ويتساءل مندداً: «المهم جابوا من لرئاسة الوزراء؟» وحين عرف السائق أن رئيس الوزراء باق، حوقل وحسبن، ثم استغفر ربه. لكن حين تأكد أن وزير الداخلية مستمر في منصبه، تلفظ بكلمات القانون يحاسب عليها وقت كانت الدولة دولة قانون! دولة القانون التي اعترفت جموع المصريين بضرورتها بعدما ذاقوا مرارة شيوع البلطجة وانتشار الفراغ الأمني وذيوع تجاهل القوانين وأحكام القضاء باتت يوم أمس قاب قوسين أو أدنى من التحلل. فالتعديل الوزاري الذي ظل يعجن ويطبخ ويبرد ثم يعاد تسخينه على مدى ما يزيد على أسبوعين ساهم في تأجيج أعراض ما بعد التهام الأسماك المملحة لدى جموع المصريين والذين بدا واضحاً أن التعديل أمس لا يعنيهم من قريب أو بعيد. ورغم دوران برامج ال «توك شو» ليل أول من أمس في فلك التوقعات والتكهنات والتأكيدات على خروج الوزراء غير الإخوان، ونسبة الأخونة الجديدة في التعديل، وما يعني ذلك على صعيد المزيد من التدهور الاقتصادي والالتباس السياسي والعك الاجتماعي، إلا أن المصريين هذه المرة لم يتلفتوا لها كثيراً، على غير عادة إعادة تدوير محتوى ال «توك شو» الليلي في جلسات الصباح ولقاءاته الشعبية على محطات الباص ومواقف الميكروباص ومقاهي العاطلين. كثيرون باتوا ينظرون إلى الوزراء والوزارات ومجلس الوزراء إلى آخر المنظومة السياسية باعتبارها إما تحصيل حاصل أو مسلسل أخونة! نظرية التحصيل الحاصل هي تلك التي تعبر عن نفسها ب «شالوا ألضو وجابوا شاهين» التي تعكس فقدان الثقة في حدوث تغيير. أما مسلسل الأخونة، فيؤمن به كثيرون، ويفسرون التعديلات الوزارية في ضوء «الأخونة بالتقسيط» أملاً بأن تتم أخونة الوزارات بالكامل تدريجياً ليستيقظ المصريون ذات يوم ليجدوا أن مصر قد «تأخونت». وبعيداً من نظريات المؤامرة والتمكين والأخونة، يتساءل قطاع آخر من المصريين ممن لم تمسهم «أعراض ما بعد تناول الفسيخ» أو «بوست فسيخ سيندروم» التي يمتزج فيها الإجهاد بالدوار مع فقدان الرغبة في التفاعل مع الأحداث عن سر التعديل الوزاري، لا سيما أن الوزارات التي طاولها التغيير هي تلك التي ظلت الجماعة الحاكمة تشيد بأدائها وتتغزل في أفعالها، بدءاً بالاكتفاء الذاتي من القمح (الزراعة) مروراً ب «توافر الوقود وحل أزمة السولار» (البترول) وانتهاء ب «جذب استثمارات غير مسبوقة وفتح أسواق جديدة» (الاستثمار). لكن التساؤلات لا تتوقف عند حد، وذلك نظراً لعدم وجود إجابات. فوزير الداخلية الذي كان يتوقع البعض إقالته بسبب الفوضى الأمنية الشديدة بقي في منصبه. بل إن رئيس الوزراء نفسه الذي يعتبره البعض مسؤولاً عن انعدام الرؤى السياسية وضبابية المحاور الاقتصادية وفوضوية الحلول الأمنية هو نفسه الذي تصدر مشهد التعديل الوزاري وكأنه من يجري الاتصالات ويقيم المشاورات! ولأنه ما خاب من استشار، فقد خاب ظن الجماعة الحاكمة بترحيب جموع المصريين بالتعديل المتعثر! ولم لا وهم يتابعون التكهنات تتأرجح بين وزارة الاتصالات، ومنها إلى الكهرباء، ثم يميل إلى الإعلام، لكنه يستقر في الاستثمار. ولم لا وقد فقدوا الأمل في حفظ أسماء وزراء لا يكادون يجلسون على مقاعدهم حتى يبرحوها؟ ولم لا والغالبية العظمى منهم فشلت في إحداث تغيير حقيقي في حياتهم؟ لكن نجم نجوم أحاديث الأمس الشعبية وحلقات الحوار في العقد المرورية كان المستشار حاتم بجاتو الذي انتقل بمنصبه الجديد كوزير الدولة لشؤون المجلس النيابية بعيداً عن رئاسة هيئة المفوضين في المحكمة الدستورية العليا، وهو ما أطلق العنان لنظريات لا أول لها أو آخر، بدءاً ب «خلايا الإخوان النائمة» ومروراً ب «الحيلة الإخوانية لإقصائه بعيداً عن المحكمة الدستورية» و»الحب الخالص والود الساطع بين الفلول والإخوان» وانتهاء بقول بجاتو نفسه إنه قبل المنصب حتى يدافع عن قانون السلطة القضائية من منصبه الجديد»! وقد عبرت جموع من المصريين عن سعادتها بتوافر مادة ثرية للجلسات الشعبية، فبجاتو الذي صنف إخوانياً قبل سنة واحدة بالتمام والكمال بأنه «من ترزية المخلوع وترزي القوانين العسكرية ويحارب الثورة» يصنف إخوانياً اليوم بأنه قد تم اختياره لهذا المنصب ل «خبرته القانونية»!