يمسك الروائي عبدالحفيظ الشمري بخيوط السرد في روايته مسكاً محكماً، ولا يدع خيوط الحدث تتسرب منه، فهو كعادته في رواياته السابقة وبواسطة الضمير العليم بكل شيء يسرد لنا رواية «نسيج الفاقة» الصادرة في 2011 عن مؤسسة الانتشار العربي. والفاقة التي تقود الشخصيات إلى النهاية المؤلمة والموجعة التي تنفذ إلى قلب المتلقي وتجعل جسمه في قشعريرة مما تصادفه الأم من جريمة مريعة يرتكبها ابنها في حقها. هذه الفاقة التي تنسج النهاية المؤلمة تضيء زاوية حرجة في مجتمعنا وزاوية مسكوتاً عنها لتضع سؤالاً لدى المتلقي: من المسؤول عن هذه الجرائم والحال التي وصل إليها الابن طاهر من حال إجرامية تقشعر لها الإنسانية؟ رواية «نسيج الفاقة» تشجب بطريقة متخفية مكاناً مسكوتاً عنه يسبب تغيير فكر السجين. وهل هذا التغيير الذي يطرأ في داخل الإنسان يكون عاملاً مساعداً لنهوض المجتمع أم أنه طريق لزرع الشر والتطرف في المجتمع؟ وتبقى هذه النقطة متوارية في شكل كبير في الرواية. وحينما تستولي الفاقة على الأسرة لأجيال، فستبعث من جسدها روائح الجريمة والعفن التي تسبب أزمة وتصدعاً في الحياة، بل وتزلزلها زلزالاً مريعاً، وحينما نقرأ هذه الرواية ستضيف لنا صوراً ومشاهد تجعلنا نمقت هذه الفاقة التي مدت حبالاً حديدية للإجرام والخديعة والإرهاب والتطرف والطمع، واستفحال المسكنات الوهمية الآنية وتهميش أعماق الإنسان، وهي الأشد خسارة في الحياة حينما ترى إنساناً يحاول الانتحار، لأنه فقد معنى الحياة وأصبح هامشاً لا يستطيع الفعل المقاوم أو المغير لواقعه. الرواية التي تتفرع إلى 11 عنواناً فرعياً يسهم كل عنوان في تعميق السرد الذي يحويه، والتي تبدأ بمخاطبة عصيفير بن عويد الريحان، هذا المهمش الفقير الذي يعيش في حي الحفيرة، و(عصيفير) اسم مصغر يشي بدلالة هذه الشخصية، وكذلك اسم الحي (الحفيرة) فأي بؤس وشقاء في هذا المكان؟ عصيفير الإنسان المفصول من عمله لتوعكه وظهوره بمظهر المتهتك الذي يعمل في (إدارة الأشغال العمومية) يحاول الانتحار، وهذا ما تبدأ به الرواية حينما تخاطبه وتؤنبه وتصف حياته المتردية، وبأنه ليس أول شخص يستشعر الذل هنا: «فهل أنت أول شخص يستشعر الذل، أم تراك قررت ارتكاب وضع الخطر من زوجتك الغلا حين ألفيتها الآن في وارد نزوات أكثر»، فهو فرد من عدة أفراد يعانون في هذا المكان، وهذه البداية سرعان ما تشرع أجنحتها ويتحول السرد فيها إلى ضمير الغائب بعدما كان المخاطب ممتزجاً بالغائب. تبدو شخصية عصيفير غير قادرة على الفعل والحركة، فهي تبدو مستكينة غير مؤثرة في الرواية، فحياته ألم ومأساة مريرة في داخلها، ولا تملك مفاتيح التغيير، بينما حوله هو ما يتغير سواء شخصية زوجته الغلا أو شخصية ابنه طاهر، عصيفير زوج وأب مسكين يحاول الانتحار ليتخلص من هذه الحياة، لكن كل محاولاته تفشل في ذلك، فهو أجبن من أن يغامر، وهو ورث ذلك من عائلته من جده الذي يتسول بالشعر، وأبيه عويد الذي يصارع الموت، ولا يستطيع عصيفير سوى هجاء المدن في هذيانه: «لماذا نزحنا إلى هذه المدينة؟ ... فلم يخبراني بأمر ما اكتشفاه في هذه المدن! كيف لي أن أنزح من جديد من مدن تكبلني بربقة البحث عن قوت وصدقة ولقمة». وهنا الراوي يترك لعصيفير مساحة ليعبر عما يختلج في داخله نحو هذه المدينة التي تثمر البؤس والفاقة. عصيفير الذي يصلي جماعة في المسجد، ويحاول أن يظهر بمظهر التقي لتمرير أهدافه يكشف عن حال مجتمع حينما يكونون تحت نسيج الفاقة والفقر وطريقة تعاملهم مع الدين، ويتآزر هذا الصوت مع صوت الراوي الذي ينتقد وضع المدينة في الرواية «مدينة العيناء تخرج جيلاً جديداً من المجرمين والقتلة». ويصور بعضا من لجوئها إلى ما ينسيها آلامها «ماء الطفاح مشروب بعض أهل العيناء الذين يتداوون به في منغصات كثيرة»، فهي مدينة تلد المجرمين والقتلة والأفراد المقهورين الذين يعانون المنغصات الكثيرة. الرواية مكثفة جداً بحيث تلمس فيها البناء المتراكم المحكم والقوي في ربط الأحداث وسلاسة الانتقال من حدث إلى آخر، والتوازن في أقسامها والانطلاق نحو النهاية كان ذلك بسبب قدرة الضمير العليم بكل شيء، والذي لا يترك لوجهات النظر أن تبرز للسطح، بل يسمح لبعض الشخصيات التعبير عن أزمتها لتكون أكثر صدقاً وتأثيراً مما لو نقلها من زاويته. ونسيج الفاقة تسير باتجاه زمن واحد، لكن هذا الزمن يمتزج بالاسترجاع أحياناً حينما يصور تاريخ عائلة الريحان أو يكشف ماضي الشخصيات مثل الغلا أو طاهر ويضيء ماضيهما إلى المتلقي، وهاتان الشخصيتان هما طرفا الصراع في الرواية، بينما عصيفير الأب يظل مراقباً من بعيد، لا يستطيع التحرك، بل هو يلجأ إلى الحبوب المخدرة وماء الطفاح لينسى الألم النفسي الذي يكاد يصرعه، فزوجته الغلا تمارس العمل الليلي التي يزيد أموالها، وكأنها نسجت طريقاً للتسول لم تكن يعرفه تاريخ العائلة، بينما لا يستطيع زوجها أن ينهرها لأنه لا يمتلك القدرة، ولأن الغلا أصبحت هي المصدر الوحيد للمال بعد أن عجز عن انتزاع المال من جيوب المحسنين، لذلك ليلجأ إلى المسكنات لعلها تعيد له بعض التوازن، ولينسى الانكسار القوي في داخله. والراوي حينما يستخدم الاسترجاع يستخدم نقيضه الاستباق أيضاً ولو في شكل بسيط جداً، لكنه يؤدي دوراً كبيراً في الأحداث، فهو يعطي تصوراً للمستقبل، وهذا الاستباق يأتي بعد معرفة عصيفير وزوجته بأن ابنهما الذي دخل السجن بسبب قتله لزاهي الشعلي قد حفظ القرآن، وأن تنازل أهل القتيل سيكون داعماً لإخراجه من السجن، ونقطة الخروج من السجن هي نقطة تحول في الرواية، إذ تتحول الرواية إلى تصوير الصراع بين الأم وابنها، وهذا يبعث في الرواية عنصر التشويق، لاسيما وأن الرواية تلجأ إلى الحلم في تأزيم حال الأم الغلا، وزيادة توتر السرد في الرواية. «لكنها دهشت من لون الماء الذي اغتسلت به بمساعدته، فقد رأته قائماً ودبقاً». وليس من الممكن الانتهاء من قراءة الرواية وإغفال دور السجن الذي لم يتطرق إلى ما بين جدرانه، بل هو ما أنتجه السجن من فرد متطرف جداً، فهذا الشاب المنحرف المهمل من الثالوث المحاط به قبل دخوله، فبعد خروجه لحفظه القرآن الكريم أصبح يتدخل في شؤون المسجد في حيهم، وينتقد الإذعان غير المبرر لضوابط الأداء العام، هذا الابن يلتحق بأخوة جماعة الحق، ويحاول إصلاح أسرته، لكن كيف يتم ذلك بعد أن استمرأت الفاقة وطلب المعونة؟ وحينما نتأمل الزمن نجد الليل يلعب دوراً في الستر والتواري، فالأم في ممارستها تتخذ الليل ستراً لممارساتها، وعلى الطرف الآخر نجد ابنها أيضاً يكون له الليل ساتراً حينما يلتحق بجماعته الدينية، وكذلك عصيفير يبحث في الليل عن ماء الطفاح وحبوب الهلوسة ليرمم ذاته المنخورة، إنه ليل العيناء الذي يخبئ في عباءته المناقض لقيم المكان. وينتهي هذا الصراع بين الابن وأمه بعدما أصبحت حال أمه وضعاً خطراً على وضعه في جماعته، وبعد تحريض من شيخه الذي أفتى بإباحة قتل أمه: «لا تجعل الوسواس والشيطان يتملكك.. فإن وقفت على أمر تراه رؤية العين فالموت أولى بهذه الفاجرة من أن تعيش». استطاع أن يتخلص من أمه وأي قسوة وعنف ومشهد قاس بسبب أن السجن وطريقة إدارته قد أولدت جذوة شر في المجتمع، ويكافأ طاهر بإحراق أمه من شيخه بالذهاب إلى الجهاد! تبقى نهاية الرواية مؤلمة، ويبقى نسيج الفاقة شاهداً على تلوت مدينة تنخر الفاقة فيها بهدوء، لكن في الأخير يبقى السؤال: من المسؤول عن هذا المرض المتسرطن في مدينة العيناء؟