مفارق العتمة هي باكورة الإنتاج للروائي محمد عبدالله المزيني، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تتكون الرواية من (178) من القطع المتوسط. وهي تنبئ عن عمل روائي جيد لروائي يمتلك ناصية مفرداته اللغوية حيث يقود زمامها ولا يتركها تتحكم هي فيه. يعرض الروائي فيها لسمفونية المكان الذي يلعب الدور الرئيسي والحيوي، فمنذ العنوان والقارئ يشعر بهذه الرسالة المكانية فكلمة مفارق توحي بالمكانية، كما أن العتمة التي ظاهرها يوحي بالزمان (ليلا) لابد لها من مكان تنتشر فيه. ويؤكد أهمية المكان في العمل لوحة الغلاف التي تصدرته فقد شغل المكان فيها (85٪) بينما الرمز الزمني الوحيد (العتمة) لم يشغل سوى (15٪) من اجمالي مساحة اللوحة، وتوحي اللوحة بالتقوقع المكاني حيث الشارع ثم البيت ثم الحجرة ثم النفس البشرية. أضف إلى هذا افتتاحية غالبية فصول الرواية التي تبدأ بالحديث عن الشارع (ص 7) أو الحي (ص 26) أو الزقاق (ص 32) أو المسكن (ص 37) أو كل ما يتعلق بهم. كما أن بيان المؤلف - الذي ورد على الغلاف الأخير للرواية - فيه تركيز شديد يجعل المكان هو البطل الحقيقي للرواية وبالتالي عرضت الرواية لبانوراما حكائية حول المكان، وإن كان المكان خفياً إلا انه هو العنصر الرئيسي في الحكاية فالزمان يأتي من خلال الحركة بين الحكايات بينما الحركة من خلال الحكايات تأتي من خلال المكان. لكن الشيء الغريب هو ثبات البيئة المكانية التي لا تتغير، فنفس الرائحة النتنة التي تظهر في المكان يقدمها الروائي في جميع حالات الأمزجة النفسية، ففي المرح يشتم الرائحة النتنة، وفي حالة الإرهاق تثب إلى أنفه نفس الرائحة، وفي حالة الحزن هي نفسها وكذلك أثناء الموت، وأثناء المغامرة ليلاً أو نهاراً، صيفاً أم شتاء، فالرائحة هي هي لا تتغير، وكان الاولى والاحرى بالروائي أن يغير من تلك الرائحة حسب تغير المشاعر في المواقف المتعددة حتى يشرك معه المتلقي. يستخدم الروائي تقنيات فنية جيدة في صياغة خيط الحكي، فهو لا يعتمد على ضمير واحد للحكي، حيث ينتقل من الحكي بصيغة الضمير «نحن» إلى الضمير «أنا» ثم إلى الضمير «هو» مستخدماً تقنيات الرواية الحديثة، فهو يشرك غيره في قص الحكاية - وإن كانت هذه الشراكة ليست واضحة تماماً - فالإهداء يدل على تبادلية خيط الحكي فهو يستمع لحكايات زوجته وأبنائه بينما أصدقاؤه يستمعون إليه وتتفرع هذه البذرة الحكائية التبادلية فيهل علينا الفصل الأول «آيات الخوف والجوع» بضمير الجماعة «نحن» الذي يشرك كلا من الراوي والمتلقي في صوغ الحكاية. ولا يضن على غيره بالمساحة السردية إذا ترك له خيط الحكي مثلما فعل مع «خالد» الذي تركه يقص حكايته دون أي تدخل منه أو مقاطعة له من (ص 125) إلى (ص 132). بناء الزمن في الرواية يحتاج من المتلقي إلى إعادة صياغة على أساس (كرونولوجي) تتابعي حيث خط الزمن يسير سيراً متعرجاً من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر، ويكثر الراوي من استخدام (الفلاش باك) لجذب المتلقي دائماً؛ فالراوي استخدم لعبة الزمن وسيلة للجذب، ففي صفحة (156 - 158) يضيف ارتدادة زمنية عن جدته وطفولته - وهي ليست دخيلة على العمل الأدبي - رغم قرب انتهاء العمل، وكأنه يخبرنا بأن لكل حكاية حكاية اخرى خاصة بها، فتوالد الحكايات متواجد وبالتالي لا يمكن للمتلقي ترك العمل حتى آخره. ثم يفاجئ المتلقي بحكاية جارته «عيوش» وتكون ارتدادة زمنية اخرى (ص 174 - 178) مغلفة حكايتها التي تنتهي بنهاية آخر صفحة في الرواية وكأن الراوي مازال في جعبته الكثير من الحكايات وعلى المتلقي انتظار روايات اخرى كما كان شهريار يتشوق إلى شهرزاد لتحكي له كل ليلة. كذلك تمتاز هذه الرواية بلغتها الشاعرية ذات البناء الفني حيث تكثر الصور الجميلة ذات الدلالة اللونية والحركية والطعم والرائحة مثل قوله: «لم نكن نعي كيف يلملم الشتاء عباءته ويرحل، ليقتحم الصيف بسوطه اللاهب وخيوله المدججة برمضاء شاحبة ومقيتة وكلاهما ممقوتان، وأحلاهما مر» (ص 50)، كما تظهر تفاصيل اللغة الشاعرية في وصفه ليلة العرس (ص 12) وكثرة استخدامه للصور البلاغية. ويحاول الروائي دائماً ربط العلة بالمعلول على طول الرواية مثل قوله: «فالأبواب لا تكاد توصد إلا ساعات من الليل ويظل بعضها مفتوحاً على مصراعيه أو موارباً، فلا حاجة إلى إحكامها بالاقفال، فهي آمنة في ظل الفقر الذي يخيم عليها» (ص 51)، أو إيضاحه لسبب التجهم الدائم لابنة عمه مريم (ص 58 - 59) وهو تفضيل أبيها لخلفة البنين على البنات ولأنها البكر فكرهها حتى رُزق الولد ففضله عليها، أو كره والد خالد للجماعة لأن خالداً: «كان مشاكساً لكل متطاول أو متجرئ على أي عضو من أعضاء الجماعة.... وهذا ما يفسر سبب مقت أبيه لنا ومقابلته إيانا بكلمات منتقاه من قاموس السب والشتم» (ص 134). أضف إلى كل ذلك مشاركة الصورة كلها لمشاعر الراوي فحين تموت جدته يتغير إيقاع صوت المؤذن: «كان صوت المؤذن على غير عادته مرتعشاً خائراً يبسط على الفضاء المعتم عباءة حزن مُوشى بالدموع ومحاطاً بسياج الأنفاس المبتورة اللاهثة.. اختفت جدتي» (ص 156). شيء آخر يعد مَحمَدة للروائي وهو اغراقه في المحلية السعودية، هذا الإغراق المحلي هو الذي يجعل التجربة الروائية تخرج إلى حيز العالمية، فهو قد عرض في الفصل الأول للتجاوز الاجتماعي الموجود في المجتمع السعودي دون خوف (مثل قضية التحرش الجنسي النوعي) أو تجربة انضمامه لجماعة دينية ثم انشقاق بعض عناصر هذه الجماعة وميلهم للعنف ومع أن هذه تجربة شخصية للراوي إلا أنها تشبه إلى حد كبير نشأة الراديكالية الإسلامية حديثاً خاصة نشأة جماعة الاخوان المسلمين وانسلاخ بعض جماعات العنف منها فالمشرب واحد لكن الأهداف والمرامي تختلف فالراوي - هنا - حول التجربة الذاتية إلى تجربة جماعية مما أخرج روايته من البوتقة الضيقة التي يحبس فيها بعض الروائيين أنفسهم إلى حيز العالمية.. استثناءً. واستمراراً لعملية الجذب التي يلعب بها الراوي ويعدها ورقته الرابحة نجده يعقّد العمل الروائي ويصنع له ذروة حدثية جديدة في نهايته. فيذكر ثلاث حالات وفاة (جدته - جاره القتيل - عيوش التي ماتت تحت أنقاض المنزل) مقابل حالة بناء واحدة وهي عرض والده لمخطط منزلهم الجديد الذي لم يبارح الورق بعد ومع هذا لم يلق استحسان الراوي الذي تزداد نزعته التشاؤمية في نهاية الرواية.