حين تتجول في أنحاء «كيرالا» لا تغادرك صور أفلامه، تعبر بك وجوه شخصياته. هنا يتجمّع فلاحون بؤساء، وهناك يختال بطله بزيّه التقليدي على درب متربة تحيط بها أشجار الموز وجوز الهند، وقريباً ستطلّ بطلته بجديلتها الكثيفة وساريها من شرفة المنزل ذي السقف القرميدي المائل تنظر بأنس أو بأسى نحو أحد ما: ابنها، أخيها أو زوجها... أن تزور مكاناً بعد أن أُشبعت عيناك بجماله وتعرفت إلى شخصياته... سينمائياً، ليس فيه من العدل (للمكان) شيء! إثر مشاهدة كل فيلم من أفلامه لا بد من أن يراود المرء شعور بأنه عاش «في زمن خاص ومكان خاص» كما تصفه الفرنسية مارتين أرماند المختصة بالسينما الهندية. «كيرالا» ولاية هندية على بحر العرب في أقصى جنوب غربي الهند. هي تتميز بأمور ثلاثة غير طبيعتها الساحرة ورطوبتها غير المحتملة: ارتفاع نسبة الأمية فيها والتي تبلغ 91 في المئة وهي النسبة الأعلى في الهند، وذهاب الكثير من أهلها للعمل في دول الخليج العربي، وانتماء آدور غوبالا كريشنان إليها! لا يمكن أن تذكر المنطقة من دون ذكر السينما المالايالاميّة، وليس من الممكن ذكر تلك السينما الهندية الناطقة بلغة مالايالام من دون الإشارة إلى هذه «الأسطورة الحية» فيها. إنه أحد أفضل صانعي الأفلام في الهند، فأفلامه «تمرين في الاكتشاف، في الإبداع، في التجربة، في الذاكرة، في القصّ». آدور «سير» (السيد) كما يدعى هنا، ولد عام 1941 في أسرة تهتم بالمسرح الشعبي الكيرالي (الكاتاكالي) الذي عمل فيه كهاو قبل أن يتجه لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم ما لبث أن ترك العمل الحكومي ليدرس السينما. أسس في مدينة «تريفندروم» أول هيئة للسينما في الهند وكتب وأخرج أحد عشر فيلماً روائياً وحوالى ثلاثين قصيراً ووثائقياً. نالت كل أفلامه الروائية جوائز وطنية ودولية. اعتبر فيلمه الأول (1972) الذي تناول فيه أزمة الطبقة الوسطى وخياراتها «سوايام فارام» (اختيار شخصي)، عماد السينما الاجتماعية في ولاية كيرالا ومؤسساً الموجة الجديدة فيها. فيما وصف فيلمه الثاني «مصيدة الجرذ» عن عزلة الفرد بأنه «الفيلم الأكثر ابتكاراً وخيالاً» من جانب المعهد البريطاني للفيلم الذي منحه جائزته عام 1982. وكان «مقام مقام» (وجهاً لوجه) مثار جدل حين عرضه لإظهاره تحولات وتذبذب الحركة الشيوعية المحلية. التقينا غوبالا كريشنان، المخرج الأقرب فنيا إلى المؤلف السينمائي الهندي «ساتياجيت راي»، في منزله المبني على طراز البيوت التقليدية في كيرالا، ليس من دون رهبة ما... فالجميع هنا يعامله حقاً «كأسطورة حية». تخلق في معظم أفلامك التي صورتها في كيرالا، أجواء شديدة الأثر، تسكن االمرء حين تجوله في المنطقة، فلا يعرف ما إذا كان ما يرى أمامه هو الحقيقة أم الخيال. - سألتني ناقدة ذات مرة ما إذا كانت الأجواء التي أصورها في أفلامي حقيقية أم إنني أقوم برسمها... أعتقد أن الفيلم الحقيقي هو الذي يتحلى بالأمانة، يتحدث عن الفن و يخاطب الروح، يتحلى بالعمق ويبتعد عن السطحية. أفلام مثل «سلام مومباي» مثلاً و «سلمدوغ مليونير» (للبريطاني داني بويل فاز بثماني جوائز أوسكار 2009، وهو مأخوذ عن رواية هندية يتناول مواضيع الفقر في البلد، مثّل فيه ممثلون هنود وصوّر قسم منه في الهند)، لا توحي بأي شيء من الحياة الحقيقية. سأروي لك حادثة. كنت مدعواً إلى نيويورك وفي المطار حين لاحظ رجل الأمن الأختام الكثيرة على جواز سفري، سألني: «تسافر كثيراً وإلى بلدان مختلفة، هل أنت رجل أعمال؟» وبمجرد ردي بأنني صانع أفلام قال «آه بوليوود! لا بد من أنك رأيت فيلم «سلمدوغ مليونير» الرائع؟»، بدا مصدوماً حقاً من إجابتي «نعم، إنه أسوأ فيلم رأيته في حياتي!». موجة جديدة فيلمك الأول كان منطلقاً للموجة السينمائية الجديدة في «كيرالا»، كيف تطورت تلك السينما هنا؟ - ثمة كثر من المخرجين ينجزون أفلاماً هنا، بعض قليل منها متطور، فلا تمويل ولا توزيع ولا جمهور أيضاً! هل هذا بسبب استقطاب سينما بوليوود للجمهور؟ - نحقق سينمانا السيئة هنا أيضاً ولسنا في حاجة حقاً إلى مومباي لتصنعها لنا! على كل السينما الشعبية في مومباي غير جيدة، ولكن لها مشاهديها هنا أيضاً. لمَ هذه المكانة المميزة لكيرالا في الحركة السينمائية في الهند؟ لك دور أساسي في هذا؟ - بدأت عام 1965 حركة اجتماعية، ومعها الأفلام الاجتماعية... أين؟ في الهند عامة تقصد؟ - (مبتسماً) أتحدث عن كيرالا فقط، وأترك بقية الهند للآخرين ليتحدثوا عنها! جاءت فكرة المهرجان السينمائي في كيرالا منتصف الستينات خلال مؤتمر للكتاب الوطني شاركت فيه. لقد رغبت بوضع السينما فكرياً في مستوى بقية الفنون. نظمنا مهرجاناً، وخلال أسبوع كانت جلّ أفلامه دارت على كل كيرالا، المدن الرئيسية بالطبع. عرضنا أفلاماً من روسيا وبولندا و... من أوروبا الشيوعية آنذاك. هل كان هذا لسبب سياسي؟ - لا، بل لأن أفضل أنواع السينما كانت تنتج هناك بكل بساطة! إنما كان هناك أيضاً أفلام من أماكن أخرى مثل فرنسا والمكسيك... اخترنا من الهند فيلمين فقط من ولاية البنغال لساتياجيت راي وريتويك غاتاك. كانت ثمة فكرة لدينا بأنه متى بدأ مهرجان يبدأ إنتاج الأفلام، هكذا أنتج في عشر سنوات أكثر من مئة فيلم اجتماعي، وبدأت الحركة والمنشورات الجدية الأول عن السينما نشرت في كيرالا. لقد قمنا بما يشبه «الهجوم» على الجمهور، عبر عرض أفلام جيدة وإنتاج نوعية فنية. اليوم ليس الأمر بمثل هذه الحيوية، فقد مرّ التلفزيون من هنا! تثار غالباً هنا مسألة دور التلفزيون السلبي في انحسار الفيلم الاجتماعي الهندي. - لظهور التلفزيون أثره الكبير في تراجع نسبة إنتاج الأفلام الاجتماعية، لقد تابعت بقية الأنواع السينمائية انتشارها، لكن التلفزيون جعل الناس في حاجة إلى رؤية الأشياء المثيرة والأفلام الجنسية. هل ثمة جمهور كاف في الهند لرؤية أفلامك؟ - أفلامي تعرض هنا في كيرالا، ولم أضيّع اي مال في إنتاجها. وعلى الصعيد الوطني هي توزع في الهند، ولكن فقط في المدن الكبرى. هناك مشكلة اللغة وهي الحاجز الأول (المالايالام تحكى فقط في كيرالا). وأفلامي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكيرالا، أما بقية الأفلام فلا ترتبط بأي مكان. قلت في لقاء «أشعر بأن أي شخص يستطيع أن يقدّر سينماي عند مستوى ما»، كيف تعرّف لنا سينماك؟ وما هي القضايا التي رغبت في طرحها؟ - ليس المرء في حاجة ليعرف بلداً كي يحب سينماه. سينماي نوع جدّ شخصي، أحاول التواصل مع الجمهور الجيد في أي مكان، أثمّن كل مشاهد، وأقدر أي فيلم يعتمد على حساسية الفرد، فكل فرد يقدّر الفيلم على نحو مختلف. السينما الجيدة صادقة تعبر عن الحياة، وكما أشرت سابقاً فإن فيلماً مثل «سلام مومباي» لا علاقة له بالحياة، بالواقع... حتى في سينما بوليوود ثمة أساس واقعي مهما كانت الزاوية التي تتناولها. أما فيلم «سلمدوغ مليونير» فنفّذه أناس لا يعرفون أي شيء عن الحياة في الهند، ومنحه الجوائز من لا يفقه شيئاً في الحياة! لمَ لم تحقق سوى أحد عشر فيلماً روائياً؟ - أعيد صوغ السؤال على النحو الآتي: كيف تمكنت من صنع هذا العدد من الأفلام؟! هذا يأخذ وقتاً، من السهل صناعة الأفلام ولكن من الشاق جداً صناعة فيلم جيد! يسألونني هل توقفت عن تحقيق الأفلام؟ مطلقا... أحضّر فيلماً منذ سبع سنوات. خلال صنع ألافلام نتعلم أكثر فأكثر عن الحياة. هذا ما على السينما أن تقوم به. أفلامي تدور في القرى فحتى «تريفندرم» ليست حقاً بمدينة. الفيلم الأول لي صورته هنا وحين رغبت السينماتك في فرنسا أخيراً بعرضه نبّهتهم إلى خصوصيته ومحليته، لكن الجمهور أحبه جداً هناك، فعلى رغم تغير الزمن بقي الفيلم معاصراً. حين صورت «مصيدة الجرذ» وسط أجواء كيرالية بحتة شديدة الخصوصية لم أكن أتخيل النجاح الذي سيصيبه. في أفلامك بعامة وفي هذا الفيلم بالذات، تدفع المشاهد بعيداً في كره الشخصية الرئيسية، والتي هي رجل في معظم الأحيان، لتجعله بعدها وفي لحظة متعاطفاً معه! - هذا صحيح. ما أردت إيصاله في «مصيدة الجرذ» هو أن هذا المخلوق قد توقف تماماً عن التواصل مع الآخرين. عندما لا تتشارك بمشاعرك، كلامك، أفعالك مع الآخرين تصبح حجراً... أما عن الشخصيات الذكورية، فهذا نتيجة ملاحظاتي عن التغيرات الاجتماعية التي حصلت في كيرالا منذ أكثر من نصف قرن وتحول النظام الاجتماعي فيها من نظام أمومي إلى ذكوري. في النظام الأمومي الانتماء إلى الأم وإلى عائلتها وإلى أرضها، اسمي أنا من عائلة أمي، الزوج يأتي ليسكن الدار ولا دور له ولا أدنى ملكية فيها، وكان هذا سائداً في القرون السابقة. لقد تعلمنا سابقاً العيش المشترك، والآن انقضى كل هذا. انظري هذا البيت الواسع أعيش فيه أنا وزوجتي فقط. جاء التغيير ومعه قضاياه. التفاصيل معروف عنك كمخرج اهتمامك الشديد بكل تفصيل مهما كان صغيراً وإملائه على الممثلين، وأنت لا تشجعهم على قراءة السيناريو أو الرواية! كيف يكون تقبلهم في مثل هذه الحالة وبعضهم من المشاهير الكبار؟ - إن أعطيت الممثلين الحرية، فهم سيؤدون الدوروفق فهمهم له، لا أريد أداء مختلفاً، فذلك سيقود إلى تضارب بين الأدوار. يجب أن يكون هناك وحدة في الأداء. في أحد أفلامي جاءني البطل الرئيسي، وقد قرأ الرواية المأخوذ عنها الفيلم، وقال لي إنه أعاد قراءتها مرات ومرات، فما كان مني إلا أن رددت «انسَ كل ما قرأت وافعل ما أطلبه منك»! السينما ليست مسرحاً، ثمة رجل واحد فقط عليه أن يقرر كيف ينطق الممثل وكيف يتحرك... هو أنا! بيد أنني أحترم مشاعر الفنانين الذي يتعاملون معي، لا أغضب منهم أبداً، ولا أطلب من مساعدي التوجه إليهم لأمر ما، بل أنا من يفعل فلست أكثر أهمية منهم سواء كانوا من الممثلين الجماهيريين أو غير المعروفين، وهم يبدون سعداء بالعمل معي. لا تصور خارج كيرالا؟ - لا، لا أخرج منها ولا أتجاوز حدودها (مبتسما)... ولا أذهب لصنع الأفلام في مكان آخر. وهؤلاء الذين يصنعون أفلاماً خارج بلدانهم مثل المخرجين الإيرانيين عباس كيارستمي، وأصغر فرهادي؟... - ليست فكرة جيدة! سينتجون فيلماً مثل «سلمدوغ مليونير»! لا أحد في الهند يدعو الفقير بالكلب لأنه فقير. لا أحد يهين الفقراء هنا، هذه فكرة أميركية عن الفقر! كل حركة وكلمة في الفيلم هي مزيفة مثلما الحال في فيلم «سلام مومباي». هناك المخرج الذي صور فيلماً في اليابان (الإيراني عباس كيارستمي في فيلم «كمثل عاشق») هو لا يحكي اليابانية ولا يعرف الحياة اليابانية، والفيلم لم يكن إيرانياً ولا يابانياً. كذلك فيلمه «نسخة أصلية» هو نسخة عن فيلم آلان رينيه «السنة الأخيرة في ماريانباد». لقد رأينا الأحلى فلم نرَ النسخة المقلدة؟ كنت عضواً في لجنة تحكيم مهرجان إسباني، وأصر أحد الأعضاء الإسبانيين على منح الجائزة للمخرج الإيراني وتناقشنا كثيراً، وعارضت بشدة، ثم في رضخت النهاية! كأنه (كيارستمي) كان مجبراً على تحقيق فيلم يحبه الفرنسيون. حتى لو كنت موهوباً، فإنك حين تخرج من محيطك ثمة شيء ما لا يتحقق لفيلمك. في النهاية طلبنا منه الأذن لتصوير داره فصحبنا إلى الحديقة حيث كان عاملان يتسلقان أشجار جوز الهند ويقطفان ثمارها اللذيذة المشهورة في المنطقة.