تعاملت الولاياتالمتحدة مع الحركات الاحتجاجية والثورية العربية بكثير من الروية والحذر، ففيما أيدت سريعاً الثورة التونسية بسبب حجم الحراك الشعبي الكبير، بدت مترددة حيال الثورة المصرية في أيامها الأولى، إلى أن جاءت جمعة الغضب التي فرضت على الإدارة الاميركية موقفاً مغايراً انتهى بمطالبة مبارك بالتنحي. وفيما مارست واشنطن ضغوطاً سياسية كبيرة من بعيد لإنجاح المبادرة الخليجية في اليمن، فرضت عقوبات اقتصادية على ليبيا في البداية ثم دعمت القرار الدولي 1973 من دون أن تتورط مباشرة في رمال الصحراء الليبية. في سورية أصبح الموقف الأميركي أكثر تعقيداً وحذراً، مع حفاظه -كما في الحالات العربية الماضية- على مبدأين: العمل الجماعي مع المنظومة الدولية، وممارسة الضغط السياسي والاقتصادي من بعيد فقط، وهذا التعاطي هو الذي دفع أطراف المعارضة إلى وصف الموقف الأميركي من الثورة السورية بالمتخاذل، وكان آخِر تعبير عن هذا الموقف، رفْض رئيس «الائتلاف الوطني» السوري المعارض لقوى الثورة الذهاب إلى واشنطن. غير أن قراءة هادئة للموقف الأميركي تبين خطأ تقديرات المعارضة السورية بتخاذل واشنطن مع النظام السوري، بحيث تجب قراءة الموقف الأميركي عبر فهم ذهنية إدارة أوباما ورؤيتها للأزمة السورية، ويمكن تشخيص عدة عوامل لفهم أكثر للموقف الأميركي من هذه الأزمة: وصلت إدارة أوباما الديموقراطية إلى الحكم لتُحدِث قطيعة سياسية وعسكرية مع نهج إدارة بوش الابن الجمهورية، القائمة على التفرد في صياغة منظومة العلاقات الدولية، وعلى اتباع النهج العسكري (الحرب الوقائية) في حل المسائل الدولية العالقة. ونتيجة العبء السياسي والاقتصادي والعسكري الذي تكلفته الولاياتالمتحدة نتيجة الحربين في أفغانستان والعراق، أعلن أوباما منذ توليه الحكم ضرورة العمل ضمن إطار الأممالمتحدة، وضرورة استخدام الأساليب السياسية والاقتصادية قبل اللجوء إلى العمل العسكري. والدرسان الكبيران في أفغانستان والعراق ما يزالان ماثلين أمامها في تعاطيها مع الملف السوري. عزز موقع سورية هذه السياسة أكثر فأكثر، فهي وإن كانت لا تتمتع بإغراء اقتصادي، إلا أنها تشكل ثقلاً وعبئاً سياسياً واستراتيجياً كبيراً على من يحاول التدخل عسكرياً، لجهة حدودها مع إسرائيل أولاً، ولجهة تحالفاتها الإقليمية الهامة ثانياً، ولجهة إمكانياتها العسكرية ثالثاً. ولذلك تعتقد واشنطن أن أي محاولة لعمل عسكري سواء بمشاركتها أم من دون مشاركتها، لن يؤتي بثمار لها ولحليفتها إسرائيل، بل ربما سيزيد الأزمة تعقيداً ويجعل واشنطن عاجزة حتى عن إدارتها، وهذا ما عبر عنه أوباما بكثير من الصراحة قبل نحو شهر، حين تساءل عبر مقابلة مع مجلة «نيو ريبابليك» الأميركية: هل التدخل العسكري يمكن أن يُحدث أيَّ فارق؟ وما زاد من التردد الأميركي أيضاً، تشظي المعارضة المسلحة إلى أكثر من مئتي فصيل، تطغى عليها الحركات الأصولية، التي تمتلك تدريباً وخبرة عسكرية عالية، مع مخزون أيديولوجي كاف لجعل سلوكها وأهدافها متباعدة عن قوى المعارضة المسلحة الأخرى. ويجب هنا تسليط الضوء على نقطة مركزية، وهي أن مسألة إرهاب الأصوليين والجهاديين هي مسألة داخلية في العرف الأميركي وليست قضية خارجية، ولذلك ترفض واشنطن تزويد المسلحين بأسلحة عسكرية متطورة خشية وقوعها في أيدي الفئة الراديكالية التي قد تهدد إسرائيل، كما أن إرسال هذه الأسلحة سيعجل بقلب كفة الميزان لصالح المعارضة، وهذا ما تخشاه واشنطن الآن، بسبب عدم قدرتها على تحديد واضح للجهات التي قد تصل إلى الحكم وتلتزم بالديموقراطية، وفق ما أعلن رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي منتصف شباط (فبراير) الماضي، وما أعلنته هيلاري كلينتون خلال جلسة استماع بشأن الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، حين قالت إن سقوط الأنظمة في دول شمال أفريقيا أدى إلى حالة من الارتباك. بناء على هذه المعطيات يمكن فهم حالة التريث التي حكمت الموقف الاميركي تجاه سورية منذ بدء الأزمة قبل سنتين، غير أن الإدارة الأميركية بدأت في الآونة الأخيرة إجراء مقاربة جديدة لا تؤدي إلى تغيير رؤيتها الإستراتيجية بقدر ما تؤدي إلى زحزحة التوازن العسكري بين المسلحين وقوات النظام، عبر موافقتها على إرسال معدات عسكرية غير قاتلة، وإجرائها تدريبات لمسلحي المعارضة، وفق ما كشفت وسائل إعلام أميركية، وذلك من أجل تحقيق هدفين رئيسيين: 1- الاقتراب قدر الإمكان من المعارضة السورية المسلحة، لا سيما المجلس العسكري وغيره من القوى المعتدلة التي تؤمن بالخيار الديموقراطي، في محاولة لتحييد الأصوليين الجهاديين قدر الإمكان قبل البدء بأي مفاوضات سياسية مستقبلية تسعى إليها واشنطن. 2- ممارسة الضغط على دمشق وموسكو لإنجاز صفقة سياسية، إثر تعنت الطرفين في تفسيرهما مبادرة جنيف التي لا تتحدث عن إقصاء الأسد، ومن دون هذا الإقصاء لن تقبل المعارضة، ومعها العواصمالغربية الفاعلة وبعض العواصم العربية والإقليمية، أيَّ اتفاق. وتحاول واشنطن في هذه النقطة إيجاد مخرج يقنع الروس، عبر تعديل اتفاق جنيف، بحيث يبقى الأسد في السلطة -كما يريدون- ولكن من دون أي صلاحيات، وتنقل كاملة إلى حكومة موقتة. ولعل تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أوروبا فيه من الدلالات ما يكفي، حين قال إن وسائل تسريع العملية الانتقالية السياسية تتطلب تغيير الحسابات الحالية للأسد. * إعلامي وكاتب سوري