تحمل المخرجة اللبنانية فرح قاسم الكاميرا وتلاحق والدها داخل منزله. تصوّره وهو يقرأ شعراً، ملتقطة ضحكاته وحركاته وأنفاسه الثقيلة. الأب هو الذاكرة التي تريد فرح نبشها لمعرفة ما في داخلها من أسرار وأفكار وهواجس وعواطف دفينة. هكذا تصبح الكاميرا ظل الوالد، تعيش معه، تنام معه، وتسلك مساراً درامياً أيضاً معه. تحاول قاسم في فيلمها «أبي يشبه عبدالناصر»، مقاربة الخاص والذاتي، لا لإنجاز فيلم عن الذاكرة فقط، بل لهواجس شخصية أولاً، وصراعات وأسئلة تريد إجابات عليها، ومن ثم يأتي حب السينما والمهنة. ولكن هل الوالد يشبه فعلاً عبدالناصر؟ من يقرأ عنوان الفيلم، يعتقد مثلاً أن الوالد سيروي بطولات مع القائد المصري الراحل، وجولات قتال وصراعات فكرية. لكن مسار الفيلم السردي، يبتعد عن الحقبة الناصرية على رغم إعجاب الوالد بها، ويغوص في ما هو أبعد من ذلك بكثير. تبدو قاسم حائرة وهي تحاور والدها، فهو لا يريد شيئاً، ويريد كل شيء، يتنقل بثقل من غرفة إلى أخرى في منزله، وكأن كل زاوية لها حكاية. يقول أن الشعر الذي يكتبه فيه الكثير من الذكريات المؤلمة والحزينة أيام المراهقة وما بعد التقاعد، وأن المشكلة التي يعاني منها وهي عدم دخوله في مرحلة النوم العميق، تجعله يفكر كثيراً بالموت. تحاول المخرجة اللبنانية التسلل داخل الفيلم، من خلال صوتها في البداية وهي تكلم والدها، ومن ثم الانتقال إلى أمام الكاميرا لتصبح شخصية محورية مع والدها، وينتقل الفيلم مجدداً إلى مرحلة ثانية: الموت. يبدو الموت هاجساً بالنسبة إلى قاسم، فهي لا تؤمن أنها سترى من تحب عند الانتقال إلى العالم الآخر، على عكس والدها الذي سيستقبله كل أحبائه. هذا الحوار الماورائي بين الابنة والوالد، تقتحمه صورة الأم فجأة. الأم التي رحلت منذ فترة تاركة في مخيلة الابنة - المخرجة، صورة لا تنسى. بعد مرض الأم ووفاتها وتورّم جسدها، لم يستطع المشيّعون إخراجها من باب الغرفة إلا بعد محاولات كثيرة. هذه المحاولات، فتحت في مخيلة قاسم فجوة، لم يسدها إلا التصالح مع الذات والحديث مع الأب عن الأم التي كانت رشيقة وجميلة وهادئة. الجميل في العمل أن الصورة، لا تتطابق دوماً مع الصوت، وكأننا نشاهد أحداثاً مستقبلية مع تعليق على أمور سابقة. وتميزت قاسم بطريقة تقطيعها وتكثيفها الزمني للأحداث، والطريقة التي تشد بها المشاهد وإجباره على الانغماس في لعبتها، فتتحفز المخيلة، ويتورط المشاهد في اجترار ذكرياته الأليمة والمحزنة، قبل المفرحة. هذا التورط، ينقُل الخاص إلى العام، فتتحوّل الأمور الذاتية والهواجس الشخصية إلى مواضيع عامة. يبدو لافتاً حضور الأب في السينما اللبنانية في الفترة الأخيرة. الوالد بما يمثله من قسوة وحنان ومسؤولية وذاكرة. وفرح قاسم ليست الأولى التي أرادت تعرية ذاكرة أبيها، وقد سبقتها إلى ذلك زينة صفير في «بيروت عالموس»، وأحمد غصين في «أبي لا يزال شيوعياً»، وباسكال أبو جمرا في «خلفي شجر الزيتون» ورامي نيحاوي في «يامو». كل الأفلام المذكورة، ناقشت صورة الأب، محاولة نبش قصص نائمة، وأن توثق من خلالها الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال الحرب الأهلية. وعرضت هذه الأعمال، غياب الأب الدائم عن المنزل، وما يخلفه ذلك من أثر في حياة أولاده لاحقاً (أبي لا يزال شيوعياً)، وانتقاله من المعسكر الشيوعي إلى التطرف الإسلامي (يامو)، وروايته عشرات القصص والمغامرات مع فنانين مشهورين (بيروت عالموس)، وعمله لصالح الجيش الإسرائيلي لدى احتلاله جنوب لبنان، وما خلفه ذلك من نبذ اجتماعي لعائلته (خلفي شجر الزيتون). في «أبي يشبه عبدالناصر»، يصبح الصمت في ختام الفيلم أكثر تعبيراً. فذاكرة قاسم متعبة من استعادة الأحداث، والوالد ما زال يقرأ شعراً لزوجته الراحلة، فيما تعرض مشاهد قديمة مسجلة للأم وهي عائدة من ممارسة الرياضة. تدخل من الباب برشاقة، لكن لا تخرج بالرشاقة ذاتها بعد رحيلها.