في رواية أسرار وأكاذيب للروائية السورية غالية قباني تتداعى "انتصار " بطلة الرواية ، تسرد تفاصيل أسرارها وأكاذيبها أمام الكاميرا ، الكاميرا كانت تمثل لبسام وثيقة سينمائية ، بينما تمثل لشخصية انتصار نافذة للبوح والتداعي عن ذكريات وحوادث في حياتها تمثل العبء . على هذه اللعبة الفنية قامت تفاصيل الرواية .. وكانت لندن تحتضن اللحظة الراهنة للأحداث بينما دمشق تحتضن الأحداث القديمة في ذاكرة " انتصار". وفي هذا الحوار نتعرف على رؤية المؤلفة وكيف كانت الأسرار أسراراً والأكاذيب أكاذيب : بوح «انتصار» هي رحلة سيكولوجية تكللت بالتطهر من مظاهر الأوجاع -عنوان روايتك يشير إلى الأسرار والأكاذيب، لكن قارئ النص سيجد ساردة تسرد بإحساس المرأة الباردة التي تتعاطى مع هذه الحالة بجمل متأنقة، وكأني بها تروي من منطقة الحنين لا من منطقة الوجع. هل يمكننا أن نعتبر هذا السرد الهادئ جناية على رواية تحمل عنوان الأسرار والأكاذيب؟ = هذه هي المرة الأولى التي أتلقى فيه حكماً بالبرودة على سرد الرواية. أعتقد ان الصورة المسبقة في أذهاننا عن الشخصيات التي تجلس أمام الطبيب النفسي وتنهار لحظة البوح، لها دور في هذا الحكم. انتصار جلست أمام الكاميرة بإرادتها وبعد تردد، لا يستجوبها صانع فيلم ولا طبيب نفسي. ولحظات بوحها تجري في مكان بعيد عن مكان وقوع الأحداث التي آلمتها، عن رقابته وضغوطاته عليها، وهي تروي وتفضفض بعد أربع سنوات على مغادرتها المدينة الأولى، لذا، تشعر ببعض الأمان وتروي بهدوء مصحوب بوجع، من دون أن تسقط في النواح. - رغم أنّ البطلة كانت تشعر بالأمان ورغم أن طابع البوح هو الفضفضة، إلا أنها كانت في حالة من التحفظ. أليس كذلك؟ = انتصار كانت مترددة في الأساس في الجلوس أمام الكاميرا، ثم أقنعت نفسها بأنها يمكن أن تتخلص من الأشرطة ساعة تشاء، أي أن بوحها ليس علنياً. لكن هل يمكن أن نصدق إن إنسانة عاشت داخل ثقافة الخوف، بإمكانها أن تقفز فوقها بيسر متخلصة من الشكوك ومن عدم الثقة بالآخرين؟ هي رحلة سيكولوجية وعقلية تكللت في نهاية الرواية بالتطهر من مظاهر الأوجاع التي عششت في روحها، فأعلنت لرفيق حياتها، أن بإمكانه أن يستخدم الأشرطة، إن أراد، في مشروعه الذي يشتغل عليه. - حضور الكاميرا هل ألقى بظلاله على على تكنيك السرد، حيث إن البوح لم يكن عفوياً وذلك لوجود الآلة. يخيّل لي أنه في السينما مثلاً، غالباً ما يرتبط وجود الكاميرا لتدوين اعتراف ما، بأفعال سادية، بينما كان أثر الكاميرا ناعماً في روايتك.. ما رأيك؟ = لماذا يجب أن يرتبط بأفعال سادية؟ مرة أخرى سؤالك يقع تحت تأثير التراث السينمائي في هذا المجال، على قلته. نحن أمام رواية تبحث عن تقنية غير تقليدية للسرد، لا تبدأ من أصل الحكاية وتسير بخط مستقيم. تبوح انتصار رغبة في أن تساعد نفسها في المضي في حياتها الجديدة، وفي إنجاح علاقتها ببسام الذي هو سندها في الحياة بعد أن فقدت علاقاتها الحميمة مع ماضيها. كل ذلك سيتم من خلال انزال حمولة الذاكرة، الذي يصحبه حزن وغضب وألم، ولكن ليس بالضرورة انهيار عصبي. على العكس، كلما أنزلت من الحمولة، اطلقت سراح الماضي، واسترخت. ومن جهة أخرى، فإن بسام صاحب فكرة بوحها للكاميرة، وهو ومخرج وثائقي يحضر لسلسة بعنوان "لندنالمدينة المتبناة"، يلتقي أثناءها بآخرين تركوا مدنهم لأسباب متنوعة. الخطان، بوح انتصار وانجاز وثائقيات بسام، يسيران بالتوازي، حتى نكاد نشعر بان خط انتصار سيضاف للشريط لاحقا، كأنه يبني لنفسه مساحة في الوثائقيات التي يجري العمل عليها. الجلوس أمام الكاميرا لا يجب أن يرتبط بأفعال سادية - أعتقد بأن الأمر ليس في تأثير التراث السينمائي، بل هو متعلق بشخصية انتصار نفسها، فهذه الشخصية لا يمكن ان تستسلم بهذا الهدوء للكاميرا؟ = لو أنها أمام مخرج يصور العمل، أي أمام إنسان آخر يحاورها ويخرج المدفون في ذاكرتها، كما يفعل المحلل النفسي، لتفاعلت معه. لكنها مثل أي شخص يجلس ويتذكر، هل رأيت من قبل شخصاً يستعيد ماضيه بمفرده، وينهار بحدّة؟ لكن انهمار الذاكرة لم يكن محايدا او بارداً، بل كان يزيد من شعورها بالأسى في بعض المواضع، أو يجعلها تغضب في مواضع أخرى، وتصرّ على أنها لن تغفر لأمها او لتميم الحبيب، ان لم يقرّا بمبدأ الشفافية والاعتراف بالماضي الحقيقي. - بسام كان شريكاً في لحظة الاعترافات، بل هو المحرض ومع ذلك بدا لي شخصية في حالة من العادية . هل تقصدتِ أن يكون بمثل هذا النموذج؟ = نعم. أنه نموذج مناقض لصورة الرجل الشرقي الذي يحاكم ويحاسب وينبش في ماضي زوجته. بسام ابن الثقافة الأنغلوسكونية لأنه تربى فيها منذ صغره. لا يتسرع في الاحكام، يترك للآخر هامش الاختيار، يراقب الأمور من خلال وضع مسافة بينه وبين هذا الآخر، وهو ما حدث في علاقته مع انتصار التي حاول أن يساعدها بلطف، وان سرّب لها خوفه وقلقه من عدم استقرارها النفسي. - ترى انتصار أن الأمّ امرأة مستغلة للحركة الحزبية، ومستغلة حتى في شأنها العاطفي مع أزواجها. كانت ممتلئة بحب الذات، بينما الأخت كندة تعيش في حالة سلم مع الأم. هل نقول أن صورة الأم في النص كانت برؤية انتصار الحانقة على الأم؟ = الرواية في مجملها ملغزة بلغة استعارية. الأم رمز لطبقتها المتوسطة التي انهارت بسبب الانقلابات العسكرية الكثيرة، هذه الطبقة التي تحالف بعضها مع العسكر ومع التأميم الاقتصادي، بينما رحل البعض الآخر في انحاء الكرة الارضية، طلباً للجوء، أو للهجرة، أو بحثا عن فضاء للحرية، الخ. صورة الأم ألفة الشماع تتداخل أحيانا مع مدينتها التي تغوي أصحاب النياشين (عسكر وأمن) على تملكها، وهي تقع في غرامهم في الوقت نفسه وتمنحهم نفسها على حساب مصلحة مدينتها وعائلتها. أما الابنة كندة فهي رمز لفئة مهادنة، لأنها "بدها تعيش"، ولن يهز شعارها حتى سماعها للمعلومة الجديدة عن ماضي عائلتها. كندة تعلمت أن تطيع لا أن تعترض وتتمرد، على عكس انتصار. - ترددت مفردة الفساد في الرواية كثيراً، لكن الإشارة لحضور ذلك الفساد ورد في أوصاف عمومية. لم نشهد حالة حقيقية لتلك المفردة التي تكرر حضورها في النص. لماذا؟ = الرواية في الأساس ليست عن الفساد. إنها بحث عن الحقيقة وعن كشف الكذب الذي يمسك بتاريخ العائلة، ولكل عائلة كذباتها، ومجمل الاكاذيب يشكل تاريخاً مزيّفاً للوطن. إنها عن النبش في الأسرار والتأكيد على "الشفافية" كإيقاع يومي. الرواية تبدأ بانتصار تنبش في تربة حديقتها لتزرع بصيلات في الخريف تحضرها للربيع المقبل، فيواجهها الدود المطمور في التربة. في لندن، تعلمت من خلال هواية الزرع التي يستنكف عنها أهل مدينتها ويتركونها للمزارعين، أن الدود ينفع التربة عندما ينبش ويستحلب الهواء ليجلب له الاكسجين، فيخضر الزرع وينمو. انتصار كانت الدودة التي تنبش في تاريخ العائلة والمدينة. بهذا المعنى، يحاول النص أن يقترب من تعريف الناقدين لوكاتش وغولدمان: "الرواية هي بحث البطل عن القيم، في عالم منحط القيم". لنعد الى مفردة الفساد التي هي من بين المكاسب التي لا تريد الأم التضحية بها، ولا زوجها رجل الأمن الكبير، ولا الشقيقان تميم الحزبي وناصر المهندس الذي يصبح وزيرا لاحقاً. هناك إشارات سريعة تذكر بالفساد، لأن الرواية ليست معنية بسرد التفاصيل التي باتت مرجعيتها معروفة في ثقافتنا العربية. الكذب والغش وإخفاء الحقائق وتزوير التاريخ للاستمرار في السلطة، هو فساد، توفير فرص العمل بسبب واسطة امرأة متنفذة، لأن بشير الشماع ليس حزبياً وغير قادر على الحصول على فرصة عمل، هو فساد. توقيف المواطنين بدون مبرر قانوني وطلب رشوة لاخلاء سبيلهما كما حصل مع انتصار وآصف، هو فساد. - جاء الحديث عن المهاجرين وعن وجودهم في لندن بما يشبه التقرير عن حالة. لم أشعر أن النص يحتاجهم. بماذا تبررين حضور تلك الشخصيات؟ = الرواية كجنس أدبي، نص مفتوح على آفاق انسانية تشتبك فيه الهموم وتتقاطع مصائر البشر. الحديث عن لجوء امرأة من الشرق الى الغرب في القرن الحادي والعشرين، بحثا عن حريتها وصوتها ومصيرها، فقط، كان سيجعل النص منغلقا على نفسه، وليس هذا بالمتوقع من الرواية عموماً، وإلا تحولت "أسرار وأكاذيب" الى ما يشبه اليوميات او المذكرات. ومدينة لندن الرحبة، التي كانت لسنوات طويلة ملجأ للهاربين من القمع والعنصرية والتمييز، وللمهاجرين الباحثين عن فرص عمل، ولمواطني المستعمرات السابقة الذين دمر اقتصاد بلادهم بسبب الاستعمار، الخ، مدينة تمنح الفرص، ولكنها لا تمنح الوطن البديل أو تكون بديلة أصيلة. يبقى بسام، مثلا، متعلقا بالوطن من خلال مطبخه، ومن خلال مشغولاته الحرفية التي يحملها من هناك فيوزعها على الجدران وفي أطراف البيت. وتبقى إيفا اليهودية التي عاشت في لندن هربا من النازية، متعلقة وجدانياً بالموسيقى الالمانية حتى لحظة موتها. لندن مدينة تمنح الملجأ من الموت والقتل والملاحقة، لكنها لا تمنح مدينة توازي المدينة الأصلية. هذه المقولة لا يمكن قولها من خلال حصر الرواية بشخصية واحدة فقط. انتصار جاءت الى هذه المدينة فتقاطع مصيرها مع مصائر آخرين سبقوها إليها. - هل في تصورك أن رواية أسرار وأكاذيب هي رواية منفى، وهل في اعتقادك ان كل روايات المنفى تكون أحداثها، بالضرورة، متعلقة بالهمّ السياسي؟ = لا يمكن إعطاء توصيف واحد لهذه الرواية، فكما لاحظت من الكتابات التي ظهرت عنها، ان كل ناقد أعطاها مقاربة مختلفة، فالدكتور محمد برادة مثلا، رآها ضمن روايات العائلة، ورأى أحمد زين الدين رواية منفى، وغيرهم قرأ فيها نبشاً في النفس البشرية المظلمة، الخ. هذه القراءات تثري النص وتؤكد على تعددية خطابه. أما إن كان يجب على كل رواية منفى ان ترتبط بالهمّ السياسي، فالسؤال يحتاج الى تفكير عميق. لنتذكر فقط، أن كل هجرة، كل مغادرة قسرية، وكل بحث عن مكان جديد، وراءه تفاصيل اقتلاع من المكان الأصلي. هل يندرج هذا ضمن الهمّ السياسي؟ على الأكثر. - هل يحمل اسم انتصار، بطلة النص، دلالة ما؟ = عندما بدأت الرواية كان الاسم مقصوداً، وهو كما ورد في النص، ان والدها العسكري الكبير الذي صدمته هزيمة حزيران، كان يحلم بنصر على العدو يسترجع معه الأراضي التي احتلتها اسرائيل. كان "انتصار" اسماً وأمنية في آن. ولكن الأب رحل قبل أن يبتهج بتحقق النصر. وبعد انتهائي من كتابة الرواية، لاحظت أن الاسم كان يبني لنفسه، بصورة غير مقصودة مني، نصراً خاصاً بصاحبته. لقد انتصرت البطلة على هواجسها وتصالحت مع نفسها وماضيها بعد أن واجهت أمها في جلسة شفافية وصدق. تجاوزت ما كان يحدّ من اندماجها فعلياً في المكان الجديد والحياة الجديدة، وما كان يعرقل تواصلها الحقيقي مع زوجها، ومع الآخرين الذين راحت تهتم بتفاصيل حياتهم كبشر يعانون أيضا، ويتني، إيفا، أوسيني، وأمير، كلهم جاءوا مثلها الى هذه المدينة الشاسعة هرباً من شيء ما. - أخيراً .. كيف تجدين حظوظ روايتك في جائزة البوكر لهذا العام؟ = أصدقك القول، إن قلت لك، إننا لم نتحدث عن الترشيح للجائزة، أنا ودار رياض نجيب الريس، الدار الناشرة للرواية، وهذا بسبب شروط سرّية الترشيح كما يفترض. إن رشحوها، فسأكون سعيدة، وإن ظهرت في القائمة الطويلة والقصيرة، وفازت، سأكون سعيدة جداً. من منا لا يحب الفوز؟ إنه نصر أيضاً!. وإن لم يحدث أي من هذا، سأحترم قرار الناشر، أو قرار لجنة التحكيم، وأعتمد على أن الرواية ستسوّق لنفسها من خلال سمعتها الخاصة.