مئات الآلاف من النساء العاملات، غالبيتهنّ في المصانع والمزارع أو الأراضي الزراعية، يساهمن يومياً وفي شكل مباشر في دعم الاقتصاد التونسي. ويعود ارتفاع عدد النساء العاملات في تونس إلى سياسة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي فتح المجال أمام المرأة لدخول معترك الحياة ومشاركة الرجل في جلّ الأعمال تقريباً، حتى الشاقة منها. وللمرأة التونسية تاريخ طويل مع العمل إلى جانب الرجل، سواء في القرى أم في المصانع والإدارة. ويكفي أن نذكّر بأنّ أول طبيبة عربية تونسية، وكذلك أول سائقة قطار، وأول سائقة طائرة، وأول سائقة باخرة، وأيضاً أول وزيرة عربية، كانت تونسية. فعلاقة المرأة التونسية بالعمل ليست وليدة العصر الحديث، ولكنها تدعّمت بشرعة الأحوال الشخصية التي أعطتها حقوقاً أكبر ومساحات أوسع للاختيار والمبادرة. تجارب وشهادات تعمل يمينة (39 سنة) في مصنع للملابس الجاهزة المعدة للتصدير، والتي تملأ المدن التونسية، وخصوصاً المدن الساحلية. هذه السيدة المتزوجة منذ 15 سنة والأم لبنتين، وولد تصحو يوميّاً في الخامسة صباحاً لتعدّ فطور أبنائها وبعض الشؤون الأخرى، قبل أن تذهب عند السادسة صباحاً إلى المصنع الذي تعمل فيه، والذي يبعد نحو 20 كيلومتراً. تقول: «أعمل في المصانع منذ كنت في سن الخامسة عشرة، انقطعت عن الدراسة بسبب ظروف قاسية مرّت بها عائلتي. فما كانت تجنيه أمي من العمل، بعد وفاة والدي، لم يكن يكفي قوتنا. لذلك، انطلقت رحلتي مع العمل في سنّ مبكرة، ولكنني اليوم اعتدت هذا الإيقاع اليومي في حياتي». تنام يمينة باكراً وتستيقظ باكراً، لتمضي في العمل أكثر من عشر ساعات يومياً لتتقاضى أجراً لا يتجاوز 400 دينار (270 دولاراً تقريباً). «ومع ذلك، لم تعد تقلقني ساعات العمل الطويلة. ما يتعبني فعلاً هو غلاء الأسعار وطلبات الأولاد التي لا تنتهي. فراتب زوجي لا يزيد على راتبي إلا قليلاً». أمضت يمينة نحو ربع قرن في رحلة الشقاء اليومي. وعلى رغم ذلك، تكاد الابتسامة لا تفارق وجهها. وتقول: «كلما نظرت إلى أبنائي... أنسى الدنيا وما فيها». أما زكية (50 سنة) التي تعمل ممرضة في مستشفى عمومي منذ أكثر من 30 سنة، فتقول: «دخلت مجال العمل في سن التاسعة عشرة، بعدما درست في معهد للتمريض. ومنذ دخولي مجال الحياة المهنية وجدت نفسي بين المرضى والأدوية والأسرّة البيضاء. وها أنا اليوم أمارس العمل بالرغبة القديمة ذاتها». وتضيف: «عشت خلال هذه السنين حكايات كثيرة، وكنت شاهدة على حزن من فقد عزيزاً وسعادة من ازدان فراشه برضيع. كنت أحزن لحزنهم وأفرح لفرحهم وأتعاطف مع البعض وأغتاظ من البعض الآخر. لكنني كنت، في كل الحالات، أباشر عملي بلا حسابات، ما جعلني أحسّ بألم كبير كلما اقتربتُ من سنّ التقاعد». ثمة قصص كثيرة في هذا الشأن، منها الطريف والمحزن والغريب. ولعلّ قصة الحاجة مجيدة التي ما زالت مصرة على العمل حتى اليوم، على رغم عدم حاجتها إليه، تجعلها امرأة عظيمة في كل المقاييس. هذه السيدة التي تجاوزت السبعين، تذهب صباح كل يوم إلى الحقل لتساعد في الزرع والسقي والحصاد، متحدّية العمر والتعب. يقول ابنها غازي إنّها ترفض بشدة أن تلزم البيت، على رغم كل المحاولات. ويضيف: «أمي امرأة مكافحة أمضت غالبية سنوات عمرها في العمل من أجل أن نصبح ما نحن عليه اليوم، فأنا طبيب وأخي الأكبر مهندس زراعي. أما شقيقتاي، فإحداهما مدرّسة، والأخرى دكتورة في الفيزياء». ترفض الحاجة مجيدة التقاط صورة لها، مكتفية بالقول: «الحمد لله على نعمة الصحة».