كانت المرأة التونسية، وما زالت، مثالاً جليّاً للسيدة المناضلة والمجاهدة في كل أحوال الحياة. فهي ساهمت في بناء بلدها جنباً إلى جنب مع الرجل، وصارعت الفقر والحزن والألم والشقاء في ظروف كثيرة. تصحو نزيهة (41 سنة) في الثالثة فجراً كل يوم، لتبدأ تجهيز العجين وتركه يتخمّر، ثَمَّ تعود إليه لاحقاً لتخبزه في «الطابونة» (التنور)، وهو فرن تقليدي تصنعه النساء من الطين. وعند السادسة صباحاً، تخرج أولى دفعات الخبز من «الطابونة»، لتحمله نزيهة وتنطلق نحو سوق المدينة لتبيعه وتعود مرة أخرى إلى بيتها المتواضع في أطراف المدينة، لتشعل «الطابونة» مجدداً بغية صنع دفعات أخرى من الخبز يحملها بعض أولادها إلى السوق مجدداً قبل منتصف النهار لبيعها قبل موعد الغداء. هكذا يمرّ كل يوم من حياة هذه الأم التونسية، تنام باكراً جداً لتصحو باكراً أيضاً. لا تعرف العطل ولا الأعياد. وتقول: «تزوجت قبل بلوغي الثامنة عشرة وبعد تسع سنوات تقريباً، سقط زوجي من ارتفاع كبير أثناء عمله في البناء... ليصبح عاجزاً. فقد اعتبروه مخطئاً ولم يراعِ شروط السلامة. وبما أنّ صاحب العمل «مدعوم»، خسرنا الجلد والعظم كما يقولون». تبتسم بمرارة وتضيف: «في أيام معدودة وجدت نفسي أمام خيارين: إمّا أن أعمل وأعيل أطفالي وزوجي، وإما أن أنتظر صدقة من هذا أو ذاك. وهذا ما زاد من ألمي، إذ لم أكن مستعدة لأصبح متسولة أو أن أنتظر نظرات العطف من الناس». وفي النهاية، قرّرت نزيهة العمل، واتصلت بوالدتها لتوفر لها «طابونة» وبعض المال لشراء الطحين ومستلزمات صناعة الخبز. وانطلقت تكابد الصعاب وتصارع من أجل عائلتها. وتتذكّر أنّها في أول يوم خرجت فيه إلى السوق، وبعدما ظلّت هناك أكثر من خمس ساعات، لم تتمكّن من بيع سوى رغيف خبز واحد فقط. وعلى رغم التعب اليوميّ، وما خلّفته السنوات من معالم الشقاء على قسمات وجهها، ما زالت نزيهة تحتفظ ببعض جمال عربيّ أصيل. كما أنّ الابتسامة الخجولة لا تفارقها، مع مسحة الحزن قد لا يلحظها زبائنها. نزيهة لديها ستة أبناء (ثلاثة جامعيون والآخرون في المرحلة الثانوية)، وتفخر بأن أحد أبنائها كان من المتفوقين في شهادة البكالوريا على المستوى الوطني. الأمل أقوى من الموت زينة (69 سنة) أمّ أخرى لم يرحمها الزمن ولم يسعفها بلحظة فرح. فبعد زواجها بستة أشهر فقط خطف الموت زوجها (ابن عمّها) تاركاً في أحشائها جنيناً خرج إلى العالم يتيماً ومعوقاً، إذ كانت غالبية أعضائه عاجزة عن الحركة، ما عدا يده اليسرى التي يحركها بصعوبة. ووجدت الأم نفسها تقوم بكل شيء لهذا الرضيع الذي كبر مع الأيام وكبرت معاناتها معه. وهي اليوم امرأة مسنّة هدّها المرض والفقر، تُعيل رجلاً في الخامسة والأربعين تقريباً، بما في ذلك الحمّام والاستحمام وتغيير ملابسه وحلاقة شعره ولحيته، وتطعمه بيديها وتسقيه. لا تخفي زينة حزنها ولا تستطيع حبس دموعها، خصوصاً أنها لم تجد من الحكومة في عهد بن علي أي اهتمام، ولم تكن تتقاضى إلاّ منحة بسيطة تكاد لا تكفي أكلاً وشرباً. أمّا الأدوية فكانت تنتظر أهل الخير كي يعينوها ببعض المال لشراء ما توافر منه. تقول: «بعد هروب بن علي، أعدت الاتصال بالمسؤولين الذين تغيّر موقفهم منّي وقدموا لي مساعدات أكثر وأصبحت أحظى بعناية أكبر، ربما لأنني تقدمت في السنّ». وتضيف، وهي تنظر إلى ابنها في الجانب الآخر من الغرفة: «أصارع في هذه الحياة طوال أكثر من أربعين عاماً. ولولا رحمة الله الذي سخّر لي بعض الأخيار وأصحاب القلوب الرحيمة... لكنت متّ أنا وابني جوعاً أو برداً». نزيهة وزينة أمّان تونسيّتان عظيمتان، صنعتا من الضعف قوة ومن الشقاء إرادة لمواجهة زمن لا يرحم، وأكدتا أنّ الأمل والعزيمة أقوى من الحزن والألم... والفقر.