بفرح ونشوة يتحدَث بول شاوول عن استعادة شارع الحمرا حيويته ونشاطه. الحركة دبَت مجدداً في الشارع العريق، والمقاهي كثرت في جنباته وفي الطرقات المتفرعة منه والمحاذية له، ليله عاد مضاءً،لا بالمصابيح الكهربائية والنيون فحسب وإنما بالمارة والعشاق، وبالروَاد الذين يشكَل الشاعر اللبناني شاوول نموذجاً لهم في إصراره على ارتياد المقهى، لا بل على العيش فيه، ليس فقط بوصفه مكاناً لتزجية الوقت أو تصريف الأيام، بل بوصفه مكاناً للحياة. يشبه الشاعر شارعه، أو يشبه الشارع شاعره، في تألقه وخفوته، في نضارته وشحوبه، في اخضراره واصفراره، كأن الاثنين صارا واحداً، يزدحمان معاً، يقفران معاً، يسهران معاً، يستيقظان معاً. وفي حالاتهما كافة يحلمان بمدينة تليق بها الحياة اسمها بيروت، شريانها الأبهر اسمه الحمرا. وكما الحمرا – شريان المدينة – عاش أزمات وتعرَض لوعكات عطلَت جريان الحياة فيه، قبل أن يتدفَق الناس مجدَداً في أرصفته ومحالَه ومقاهيه كذلك حال بول شاوول الذي عاد «ماء الورد» الى وجهه ومحيَاه بعد عملية جراحية في القلب وترميم للشريان والصمَام فتدفَق الدم مجدَداً في الأوردة وصار حبراً وشعراً وأفكاراً ورؤى. يفرح بول شاوول بالشارع فرحه بشريانه الجديد، كأن الشاعر والشارع يفهمان بعضهما بعضاً، يسرَان لبعضهما، يسخران معاً من الموت الذي عابثهما قليلاً لكنه ارتدَ خائباً، مثلما ارتدَ مراراً عن اسوار المدينة المسيَجة بالشهداء والعشَاق والمصرَة أبداً على الحرية والحياة، وعلى التنوَع سمةً خلاقة لا بدَ منها لكل مدينة حيَة. يفرح بول شاوول. يفرح ويكتب، يكتب شعراً، يكتب نثراً، يطرح رأياً. تتفَق معه تختلف، تلك مسألة أخرى. تجاري أسلوبه، لغته، انفعالاته، حدَته أحياناً، تجافيها، تلك ايضاً مسألة أخرى. إذ ليس الاتفاق ما يصنع حباً بالضرورة، بل لعل الاختلاف هو ما يمنح الحب نزاهةً وصدقية ويبعد عنه شبهة المجاملة والرياء. وأجمل ما في الشاعر صدقه. للشعر أن يتجمَل بعذوبة الكذب كما قالت العرب قديماً، لكن للشعراء بوصفهم بشراً أن يصدقوا مع أنفسهم أولاً ليصدقوا مع الآخرين. قبل أسابيع منح ملك المغرب وساماً رفيعاً لبول شاوول (خمسة فقط من العرب حصلوا عليه، الى شاوول : فاتن حمامة، محمود درويش، نور الشريف، مارسيل خليفة). صعد بول الى المنصة لتسلّم وسامه من الملك مرتدياً الجينز. لم يرتد بدلة أو ربطة عنق – لم أشاهده يوماً على هذه الحال أصلاً - لا تقليلاً من احترام المناسبة بل انسجاماً مع «هيئته» الدائمة التي تعكس كثيراً من مضمونه. فالمظهر هنا يشير الى الجوهر، وشاعرنا يتميز بصراحته في كل شيء، صراحة شفيفة، جارحة أحياناً، لكنها صادقة، وهذا هو المهم. وهل أكثر من الصدق ما تحتاجه هذي البلاد الواقعة دائماً ضحية النفاق والتكاذب. الأمكنة بناسها أولاً وكذلك بيروت وشريانها الأبهر الذي لو كان فقط مقاهي ومحال تجارية وواجهات لكان صنو أيَ شارع آخر في أيَ مدينة اخرى، لكن الحمرا شارع حياة وحب وحرية، شارع فرح وجمال وأنوثة، شارع حالمين وحمالين وباعة وعابري سبيل، شارع شعر وشعراء قلوبهم مفتوحة على التجدَد الدائم تماماً كما هي حال قلب بول شاوول الذي من دونه لا يكتمل الشارع ولا الشاعر!