وقف الطفل متأملاً اللوحة بنظراتٍ فيها كثير من الدهشة والاستغراب، وبنبرةٍ لا تخلو من الاستنكار سأل والدته: كم أباً لي؟! ضحكت الأم وأعجبت بطرافة صغيرها، من دون أن تتنبه إلى ذاك الصراع الداخلي الذي كان يعانيه الطفل، وأجابته: لك ابٌ واحد يا حبيبي، وبعد قليل سيعود من عمله... ردّ الطفل هنا وبعصبية لا تخلو من نزق حاد: وكيف ذلك؟ أليس هذا أبي أيضاً؟! مشيراً بيده إلى صورة (حافظ الأسد) المعلّقة على حائط الغرفة، وقد ذُيّلت بعبارة «الأب القائد: حافظ الأسد». أسقط في يد الأم، وشعرت بحقيقة المأساة التي يعانيها صغيرها، وأدركت حجم الصراع المعتمل في داخله. هذه واحدة من آلاف القصص التي جرت أحداثها في بلد تحوّل سكانه إلى عبادة القائد الرمز. تساؤلات كثيرة بدأت في حياة ذلك الطفل الذي التبس عليه الأمر، واحتار من هو أبوه الحقيقي، وكثرت الأسئلة مع تراكم الزمن، وما زالت تدور في خلد ذاك الطفل الذي أصبح صديقي في ما بعد، وقصّ لي تلك القصة بنوع من الفكاهة التي أخفت وراءها كثيراً من الحزن والألم المشوب باليأس والخذلان من واقع بلدنا. فما قام به حافظ الأسد وعمل على ترسيخ جذوره طوال فترة حكمه التي امتدت زهاء ثلاثة عقود، وصولاً إلى عهد وريثه الابن يُعدّ وصمة عار على جبين الإنسانية. فأين المنطق بفكرة أبوّة هذا الديكتاتور لجميع أفراد الشعب، ووجوب طاعته، ومن يفكر بشقّ عصى الطاعة سيغدو ابناً عاقاً تجب محاسبته ليكون عبرة لبقية إخوته في المجتمع! هل يُعقل للمرء أن يُصدّق أنّ طلاب المدارس كانوا ينتظمون في مجموعاتٍ صغيرة يُطلق عليها اسم «طليعة»، وتكنى باسم أحد الرموز التاريخية أو المعارك «طليعة حطين» أو «طليعة ميسلون» أو «طليعة صلاح الدين الأيوبي»! هل يُعقل أن يتنافس الأهالي لجعل أبنائهم في منصب عريف الطليعة «القائد» الذي يصدر الأوامر العسكرية «استرح...استعد...ابدأ...» ويبدأ الصغار بالهتاف وهم في طريقهم إلى المدرسة صباحاً: «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة»! وعلى باب المدرسة تلتقي تلك المجموعات لتوحّد هتافها: «بالروح بالدم نفديك يا حافظ»، «حافظ أسد رمز الأمة العربية». أطفال بعمر الورود في أول تفتحها تصدح حناجرهم بهتافاتٍ وشعاراتٍ جوفاء ظلّوا يرددونها إلى أن ترسّخت في الوجدان الجمعي للمجتمع السوري الجديد. فمنذ ما يزيد على أربعة عقود قلائل هم أولئك الذين لم ينتسبوا طوعاً أو كرهاً إلى منظمة «طلائع البعث»، تلك المنظمة، التي شوّهت الطفولة، وعمدت إلى تخريب أجيال بكاملها، فتغيّرت أحلام الأطفال، واختلفت أمزجتهم، لكنها توحّدت على العدوانية والشراسة من جهة، ومن جهة ثانية على الطاعة العمياء للأب القائد الرمز والقدوة. وبعد انقضاء تلك المرحلة تقوم منظمة أشد قسوة من سابقتها بتلقف أولئك الصبية الذين تربّوا على عبادة الأب القائد، فتقوم بتجهيزهم جسدياً وفكرياً تحت مسمى «شبيبة الثورة»، إذ إنها تعمل على زيادة ربط التلاميذ بقائدهم الرمز من خلال إجراءات تبدأ من ارتداء البزّة العسكرية ذات اللون القاتم، مروراً بكتب الثقافة القومية وتلقينهم أقوال «القائد المناضل»، وصولاً إلى دروس التربية العسكرية، حيث كان يعدّ مدرب العسكرية عين المخابرات في المدرسة، ورجل الأمن المخلص لقائده. وبعد تأهيل التلاميذ، وتعبئتهم وتجهيزهم فكرياً وجسدياً للقتال في سبيل قائدهم، تقوم منظمة لا تقلّ عن سابقتيها قذارةً هي «اتحاد طلبة سورية». فهي قيادة منتقاة بعناية ومعظم قياداتها يتبعون لرؤساء فروع الأمن والمخابرات، ينشرون أتباعهم في الجامعات ليصبحوا جواسيس على زملائهم. ينالون مباركة قادتهم في الفروع الأمنية، ويتنعّمون بامتيازاتٍ تجعل منهم طلبة مميزين، إذ إن معظمهم من الطلاب الكسالى الذين استفادوا من درجات خاصة تُمنح لمنتسبي كوادر الصاعقة والمظليين، لذا تجدهم يبقون على حالهم في الجامعة من كسل وفساد، خصوصاً بعد أن تتلقفهم أجهزة المخابرات، ويقوم رجال الأمن بتغذية عقد النقص لدى هؤلاء الطلبة من حبّ الظهور والسلطة والنفوذ والمال، فيضمنون ولاءهم وانحيازهم إلى قادتهم قبل إنسانيتهم ليشكّلوا في ما بعد عناصر الجيش الوطني واللجان الشعبية، وبصمة شباب سورية والجيش السوري الإلكتروني وغير ذلك من قطعان الشبيحة التي عمل الأسد يوماً على تربيتهم وتنشئتهم وتجهيزهم لمثل هذا اليوم، ليقفوا في وجه إخوانهم وذويهم ممن ثاروا على سلط الأب ومخلفاته، وليس لمحاربة إسرائيل والأرض المغتصبة كما تعلمنا في كتب الثقافة القومية البائدة.