كان من الأفضل لأميركا ولمنطقة الشرق الأوسط تحديداً، لو أن جورج بوش الابن لم يصل إلى البيت الأبيض، وبقي كما كان، حاكماً سابقاً لولاية تكساس، لكن الذي حصل أنه فاز بالبيت الأبيض لولايتين متتاليتين من 2000 إلى 2008، وأثناء رئاسته دمّر العراق وأفغانستان والاقتصاد الأميركي. جاء بعده باراك أوباما أول رئيس أسود لأميركا منذ تأسيسها في منتصف القرن ال18. خطيب مفوّه ويملك كاريزما جاذبة. سياسياً هو على النقيض من سلفه. كان بوش متهوراً ومقتنعاً بأن القيم الأميركية هي التي يجب أن تحكم العالم. يتوهم أحياناً أنه يتحرك في قراراته وسياساته بعناية ورعاية إلهيتين. أوباما أكثر تواضعاً من ذلك، يؤمن بالقيم الأميركية، لكنه يميل في سياسته الخارجية للعزلة، وأكثر ما يميزه في هذه السياسة أنه ينفرُ من المغامرة. يبدو كما لو أن مغامرات سلفه ونتائجها المدمرة تلاحقه أمام كل قضية دولية، ولذلك يميل إلى التردد كثيراً، وأحياناً إلى درجة الشلل، وربما أن هذا يعود إلى خصائص شخصية تربى عليها. وربما إلى حقيقة أنه فاز بالرئاسة بعد الفترة العاصفة لسلفه بوش الابن، وربما لكليهما معا. مهما يكن، وعلى رغم أنه بشخصيته وأسلوبه السياسي على العكس من بوش، إلا أنه أيضاً فاز بولايتين رئاسيتين، ونتائج سياسته الخارجية في الشرق الأوسط لا تقل سوءاً عن نتائج سلفه. هل سيأتي يوم يقول فيه الأميركيون كان من الأفضل لأميركا لو أن باراك أوباما بقي سيناتوراً في مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، ولم يدلف إلى البيت الأبيض؟ إذا نجحت سياسة إدارته الاقتصادية في إخراج أميركا نهائياً من مستنقع الكارثة المالية التي بدأت في 2007، فعندها سيكون رأي الأميركيين في أوباما - على الأرجح - أكثر إيجابية مما هو عليه تجاه بوش، لكن، أمام ذلك أكثر من ثلاثة أعوام من عمر الإدارة قد تكون حبلى بمفاجآت لا تخطر على بال أحد. في هذا الإطار، يبدو أن انشغال الإعلام الغربي في الأيام الثلاثة الأخيرة بما سيكون عليه موقف أوباما من استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي ليس له ما يبرره. لم يتغير شيء بالنسبة لأوباما. الخط الأحمر الذي رسمه للرئيس السوري لم يتم تجاوزه حتى الآن، وقد أكد ذلك يوم الجمعة الماضي أمام الصحافيين في البيت الأبيض، وبحضور العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، بقوله: «إن المجتمع الدولي لن يقف متفرجاً ويسمح بالاستخدام المنتظم لأسلحة مثل الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين». تنطوي هذه الجملة على معنى واحد، وهو أن الاستخدام غير المنتظم أو المتقطع والمحدود للأسلحة الكيماوية لا يشكل تجاوزاً للخط الأحمر، كأن أوباما فهم من استخدام النظام السوري المحدود لغاز «السارين» في حلب اختباراً لمدى مرونة خطه الأحمر. وجاء جوابه بأنه أكثر مرونة مما يعتقد البعض! الأسوأ أن قتل السوريين في عرف الرئيس أوباما، وتدمير مدنهم في شكل منتظم بأسلحة ثقيلة مثل المدرعات والطائرات الحربية والصواريخ والبراميل المتفجرة، كل ذلك جائز بحسب قواعد اللعبة التي يستهدي بها في التعامل مع هذه الأزمة. لن تتغير قواعد هذه اللعبة إلا بالاستخدام المنتظم للسلاح الكيماوي. هذه نتيجة طبيعية لما تتسم به سياسة إدارة أوباما الخارجية، وبخاصة تجاه الشرق الأوسط، من تردد وبطء في الحركة، وبدرجة كبيرة من الغموض. يفضل أوباما الديبلوماسية والحلول السياسية. هل لهذا الخيار الديبلوماسي من حدود؟ وعلى ماذا يستند هذا الخيار؟ وما هو البديل في حال فشله؟ هل هناك بديل؟ إذا كانت الحرب هي الديبلوماسية بأسلوب آخر، فإن الديبلوماسية هي أيضاً الحرب، لكن بأسلوب مختلف. من الخطأ الاستراتيجي الفادح أن تبدو الديبلوماسية عارية ومترددة، وكأنها الخيار الوحيد المتاح، وهذا تحديداً ما تبدو عليه سياسة أوباما في المنطقة، وهو من أكثر جوانب هذه السياسة خطورة على الجميع. هناك ميزة أخرى تتسم بها سياسة أوباما تجاه المنطقة: قلة الإنجاز في القضية الفلسطينية وفي العراق والملف النووي الإيراني والثورة السورية. منذ 2009 وحتى الآن لم تحقق إدارة أوباما أي مكسب سياسي لا لواشنطن ولا لأي من حلفائها، بل لم تؤد إلى تخفيف الخسائر التي تسببت بها سياسة بوش الابن، والتي جاءت سياسة أوباما في الأصل كبديل أفضل لها. السجل الأميركي في القضية الفلسطينية معروف. ماذا عن العراق؟ فشل أوباما في الحصول على اتفاق مع حكومة المالكي يتم بموجبه انسحاب القوات الأميركية، فاضطر إلى سحبها من دون اتفاق، وبالتالي بقي مأزق السياسة الأميركية في هذا البلد كما هو. كان بوش هو صاحب قرار الحرب على العراق واحتلاله، وتخليص طهران من صدام حسين ألد خصومها، وجاء أوباما ليصبح صاحب قرار التسليم بالنفوذ الإيراني والتعايش معه في العراق. على رغم اختلاف سياسته عن بوش، إلا أن سياسة أوباما رسّخت النتيجة نفسها: مزيد من النفوذ الإيراني ومزيد من الاحتراب الطائفي. بالنسبة للملف النووي الإيراني، لم يحقق أوباما أي تقدم طوال فترة رئاسته الأولى. تخصيب اليورانيوم وصل إلى أكثر من 20 في المئة، والمزيد من المحطات النووية يتم إنشاؤه. يفضل أوباما الحل السياسي لهذا الملف، والتفاهم مع الروس للخروج من المأزق. أمضى حتى الآن أكثر من أربعة أعوام يدفع بالخيار الديبلوماسي معززاً ذلك بالعقوبات، إلا أنه لم يصل إلى شيء. يصر على أنه لن يسمح لإيران بامتلاك القنبلة النووية، وأن الخيار العسكري لا يزال على الطاولة لمنعها من تحقيق ذلك. ربما أن هذا صحيح، لكن، كيف يمكن مواءمة ذلك مع ضعف موقفه في العراق، وتردده الواضح أمام الثورة السورية، وتفضيله إشاحة النظر عن مأساة الشعب السوري؟ كيف يمكن الجمع بين خيار عسكري على الطاولة مع إيران، وفي الوقت نفسه التعايش مع نفوذها في العراق، بل مجاراته أحياناً كما حصل في انتخابات 2010؟ آنذاك فازت القائمة العراقية في الانتخابات. تمسكت إيران ببقاء المالكي رئيساً للحكومة على رغم خسارته. وفي الأخير قبلت واشنطن، صاحبة الديموقراطية، وضمّت صوتها إلى صوت طهران، وبقي المالكي رئيساً للحكومة. ما الذي يمكن أن تستنتجه طهران من سياسة أوباما في مثل هذه الحال؟ عندما نأتي إلى الثورة السورية، أكثر ما يلفت النظر أن سياسة أوباما هنا لا تختلف عنها في العراق: الارتباك والغموض والتردد. على العكس من ذلك تبدو سياسة طهران. تنطلق واشنطن من دوافع مختلفة - أو هكذا يبدو - عن تلك التي تنطلق منها طهران. لكل منهما هدف مختلف عن الآخر تجاه الثورة أو هكذا يبدو. إيران تريد القضاء على الثورة وإبقاء الأسد في مكانه، وإعادة إنتاج النظام السياسي الذي يقف على سدته. من جانبها تفضّل واشنطن تنحي الأسد واحتواء الثورة، وأيضاً إعادة إنتاج النظام السياسي. ربما لذلك تجمعهما نقاط مشتركة تجاه هذا الموضوع. كلاهما يرفض «جبهة النصرة»، وكلاهما يفضل الحل السياسي، وكلاهما يرفض تسليح المعارضة السورية، وكلاهما يتعاون مع موسكو لإيجاد الحل السياسي المنشود. طهران ترسل مستشاريها وجنرالاتها ومساعداتها العسكرية والمالية للرئيس السوري، ومع أن واشنطن ترفض تسليح المعارضة، إلا أنها تبدو وكأنها تغض الطرف عما تفعله طهران. ومع رفضها لتسليح الثوار، لا تفعل واشنطن شيئاً لوقف وصول السلاح الإيراني والروسي إلى النظام السوري. تتمسك موسكووطهران بأن يحتفظ النظام بالتفوق العسكري على الأرض أمام الثوار، كورقة تفاوضية لهما وللنظام. من ناحيتها لا تملك واشنطن ما تقوله حتى الآن إلا زيادة مساعداتها الإنسانية والعسكرية غير القاتلة. تضغط على حلفائها السعوديين والأتراك والقطريين لعدم تزويد الجيش السوري الحر أسلحة ثقيلة. الأوروبيون منقسمون حيال الموضوع نفسه، وهو انقسام على صلة بالتردد الأميركي. ربما أن هذه الإدارة تريد أن تستنزف خصميها في الأزمة السورية: روسياوإيران. هي تعرف أن المآل الأخير للنظام السوري هو السقوط، وبالتالي لا ترى ضرورة لدفع ثمن شيء هو في النهاية تحصيل حاصل. طهران تغذي الحروب الطائفية في العراق وسورية، وهي بذلك تحرق أوراقها. موسكو متمسكة بالأسد، وهي تُجهِز بذلك على آخر مواقع نفوذها في المنطقة. كأن واشنطن تنتظر أن تقضي الحروب الدينية في الهلال الخصيب والشام على خصومها، وأن تنضج عوامل التغيير في المنطقة، لكن، يبدو أنه انتظار العاجز الذي لا يملك شيئاً إزاء مسار الأحداث إلا التمني بأن يأخذ منحى معيناً. هل هو كذلك؟ أياً يكن، هو انتظار سلبي ينطوي على أخطار جسيمة لم تتضح إلا معالمها الأولى. * كاتب وأكاديمي سعودي