«من يرتدي اللثام لا مكان له في ساحاتنا»، لم يعد هناك شيء يريد شيوخ العشائر إخفاءه. طلبهم من الشباب خلع اللثام في الساحات سبق إعلانهم بدء تشكيل قوات عسكرية «تحمي السنة من اعتداءات القوات الأمنية والجيش». ولخص مبعوث الأممالمتحدة إلى بغداد مارتن كوبلر، الوضع بقوله إن «العراق يتجه نحو المجهول»، فما بعد «مجزرة الحويجة» لم يعد كما قبلها، والجيش تحول في الخطاب الديني والعشائري إلى «قوة احتلال»، ما يبرر إعلان «الجهاد لإخراجه من المدن السنية التي يرفض معظم سكانها حتى اليوم طروحات تشكيل إقليم خاص بهم، لكنهم قد يجدون أنفسهم أمام «إقليم الأمر الواقع» الذي تكرسه قوة «الجيوش الجديدة» بديلاً للاستفتاء الشعبي. طلب «خلع اللثام» يحمل دلالات عميقة، فالكثير من المتظاهرين يخشون أن تعاقبهم قوى الأمن في حال التعرف إلى وجوههم، وآخرون ينتمون إلى مجموعات مسلحة قاتلت القوات الأميركية وتنظيم «القاعدة» ووجدوا أنفسهم متهمين بالإرهاب ويتعرضون لأحكام بالإعدام، فيما هم في الشارع السني أبطال. المشكلة التي تعمق الأزمة تعود، في رأي القائمين على التظاهرات، إلى عدم إنصاف الحكومة آلاف المسلحين السابقين، في نطاق «العدالة الانتقالية» لا في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الأهلية عام 2008 ولا بعد رحيل القوات الأميركية عام 2012. خطب الجمعة الأولى بعد حادثة الحويجة، في الأنبار وسامراء والموصل، ركزت للمرة الأولى على استنهاض «المقاتلين السابقين» في المجموعات المسلحة السنية، وغازلت ضباط الجيش السابق والبعثيين، لكنها دعت في الدرجة الأساس إلى إخراج العناصر الأمنية والجيش من المدن وإيكال الأمن فيها إلى الشرطة المحلية. واقع الحال أن اتفاقاً تم بالفعل على عدم دخول الجيش بلدة سلمان بك التي سيطر عليها مسلحو العشائر ليومين قبل إخلائها، فيما صدرت أوامر إلى الوحدات العسكرية في المدن بتجنب الاحتكاك مع المتظاهرين في هذه المرحلة، والبدء برفع حظر التجول في محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وأجزاء من كركوك ابتداء من اليوم. ويبدو أن «قوات سوات» التي اقتحمت ساحة التظاهرات في الحويجة الثلثاء الماضي، وهي من قوات النخبة المدربة أميركياً وتتحرك وفق أوامر من مكتب القائد العام للقوات المسلحة (رئيس الوزراء نوري المالكي)، قد وُضعت عبر ذلك الاقتحام الدامي، الذي خلف نحو 200 قتيل وجريح، أمام اختبارات صعبة، فبقاؤها والشرطة الاتحادية في داخل المدن يعني أنها ستخوض حرباً طاحنة مع مقاتلين من العشائر والمجموعات المسلحة السابقة، فيما انسحابها بالكامل يفتح الباب أمام واقع جديد يفرض فيه المسلحون الأمر الواقع، أي الإقليم السني، ليمتد عبر خمس محافظات على الأقل، ويجاور الحدود السورية والأردنية والسعودية غرباً، وإقليم كردستان وإيران شرقاً، وبغداد والمدن الشيعية جنوباً. بيان عشائر الأنبار أشار إلى أن أنها ترغب في تحويل المحافظة إلى «ملاذ آمن لأهل السنة في العراق، من ظلم حكومة بغداد»، وخطاب الحكومة ملتبس ومرتبك، مرةً يصف ضحايا الحويجة بأنهم «ارهابيون» ومرة أخرى بأنهم «شهداء». لا يعول الوسط السياسي العراقي كثيراً على إمكان إقدام المالكي على مبادرات كبيرة تنزع فتيل الأزمة المتصاعدة، فيما يقف حلفاؤه وخصومه على حد سواء على مسافة بعيدة منه، في انتظار أن تطيحه الأحداث، وتسببت تصريحاته في تفاقم الأزمة. الأطراف السياسية العراقية المختلفة والمتصارعة منذ سنوات على السلطة «ارتدت لثامها»، فيما خلعه المتظاهرون، عندما وقفت متفرجة أو داعمة لانزلاق الأوضاع إلى الحرب الأهلية، وتقاعست عن إجراء أي إصلاحات جدية تعالج أزمة التظاهرات. وقال كوبلر أمس إن العراق «يقف عند مفترق طرق ويتجه نحو المجهول ما لم تتخذ إجراءات حاسمة وفورية لوقف انتشار العنف». وأضاف: «أدعو جميع الزعماء الدينيين والسياسيين للاحتكام إلى ضمائرهم واستخدام الحكمة فلا يدعوا الغضب ينتصر على السلام»، وحمل قادة البلاد مسؤولية «تاريخية في تولي زمام الأمور وإطلاق مبادرات شجاعة والجلوس معاً».