الإثنين 22/4/2013: المدينة اللبنانية يشكو كتّاب وفنانون في طرابلس وشمال لبنان من تراجع معنى المدينة في عاصمة شمال لبنان، وليس السبب أمنياً، على رغم ان طرابلس تقلبت في أيدي سلطات عسكرية وعقائدية متناحرة إقليمياً ودفعت من نمط حياتها المعهود ثمناً باهظاً يصعب تعويضه. في رأيهم أن مدينتهم تكاد تفقد مدنيتها بانهيارها أمام قبضايات الأحياء المتصارعين على مواقع سلطة ومال يطلبها هذا الطرف أو ذاك في الإقليم العربي والإسلامي. يقول الصديق الطرابلسي أنه يفتقد في مدينته أجيالاً تخلف أمثال سليم خياطة في ثلاثينات القرن الماضي وخالد زيادة في ثمانيناته وقبلهما أعلام يتقدمهم كامل البحيري. كانت طرابلس في زمنها السعيد المديد تتغلب على طرفيتها بأنوار الأدب والفن وبرسائل الفكر في وجهيها التراثي والحديث. الآن، يقول صديقي، تتحول الطرفية الى عزلة مفروضة ثم الى عزلة مقبولة وموضع فخر للمعزولين. وليست صيدا وزحلة وبعلبك وصور والنبطية بعيدة عن المصير الطرابلسي وإن بأشكال وأسباب تناسب كل مدينة ومؤثراتها القريبة والبعيدة. الكلام العربي السائد على انحلال المدينة الحديثة يتركز على الترييف كسبب رئيسي. في الحال اللبنانية الأمر مختلف لأن الحداثة الأوروبية وصلت الى الريف اللبناني (نعني جبل لبنان في صيغته الموسعة أواسط القرن التاسع عشر) ومنه الى المدن اللبنانية في سباتها العثماني بعد ضعف دخل جسد السلطة وتغلغل فيه. قيمة المدينة اللبنانية انها تقبلت بحماسة الحداثة الآتية اليها من ريف لبنان الذي تلقح ثقافياً بالمدارس الإرسالية المبكرة. وحدث ان انتقل اليسوعيون من الجبل الى بيروت لينشئوا فيها جامعتهم وكذلك الإنجيليون الأميركيون أنشأوا هم أيضاً جامعتهم. الضربات التي تتلقاها حداثة المدينة اللبنانية لا تأتي من الترييف انما من موجات متسرعة وغاضبة للتعريب والأسلمة، تلك المرتبطة ببيئات تفرض نمط عيشها على المدينة اللبنانية محيلة حداثتها الى حطام يسهل جرفه ليصبح أثراً بعد عين. ذكرنا مدناً ولم نذكر بيروت، انها وحدها تقاوم لتعاود إحياء مدننا. الثلثاء 23/4/2013: أجساد نلجأ الى التراب، لا نجده، بل نجده ضائعاً في زنجار الحديد، في حطام بيوت كانت بيوتاً. كيف ينبت الزهر من تراب خلاسي؟ تنعكس النجوم في نثار المعادن، وهذا الذي يضيء ليلاً في الحديقة ليس كائنات صغيرة حية، إنه ذكرى ما كان تراباً حياً واندثر. نقاوم من أجل أجساد تجد حقيقتها في الطبيعة، في تراب يحضن كائناته الأصلية لتتنفس في خلاياه. والأجساد التي لنا نعرفها في الوخز، في نقطة الدم على الجلد، دمنا الذي ليس رماداً. الأربعاء 24/4/2013: بيار صادق اكتملت مجموعة بيار صادق بموته اليوم، هو الذي رفع الكاريكاتور الى مرتبة المقال السياسي الخاطف، بعدما كان زينة المقال أو مفسر معانيه. هو ابن زحلة، مدينة الشعراء والفنانين والمغامرين ومدينة الساخرين بامتياز، من الكلام الشفوي الذي يخز شوارعها والحارات والمطاعم، الى مونولوجات نجيب حنكش وأشباهه في الوطن والهجر، الى الصحافة الناقدة الضاحكة مع اسكندر الرياشي ومارك الرياشي من بعده، وقبل هؤلاء ومعهم سعيد عقل شاعر لبنان المتعالي. ويبدو أن جمع تراث بيار صادق يتطلب وقتاً وتعباً، خصوصاً فن البورتريه بريشته التي تختصر. نذكر هنا مجلة «الرسالة» الأدبية (رئيس تحريرها جان كميد) التي كان صادق يخرجها ويرسم معادلات فنية للقصائد والقصص والمتابعات الأدبية. يعلو الموقف السياسي لبيار صادق على فنية رسومه، ولكن عندما نراجع الرسم بعد فوات مناسبته تعلو فنيته على سياسته، من هنا سرّ بقاء رسومه باعتبارها، على الأقل، صرخة احتجاج على التسلط وفعل انحياز الى الحرية. وليست سخرية بيار صادق مجانية إنما تلتزم الحرية والانتماء اللبناني، فنرى رسومه حاضرة في طليعة معارضة المكتب الثاني في العهد الشهابي الممتد الى عهد شارل حلو، وفي طليعة مقاومة استعباد لبنان ومحو شخصيته ليتحول ميدان قتال إقليمي ودولي. من هنا عاش بيار صادق في دائرة الخطر وكان محل غضب زعماء سياسيين وقادة ميليشيات طيلة الحروب اللبنانية المتعاقبة. ريشة تتميز فنياً بالخط العريض المتوتر المقتصد، ومضموناً بانحياز الى لبنان الحرية والإنسان. صفحة كبيرة في الكاريكاتور اللبناني انطوت وصار لزاماً نشر دراسات عن هذا الفن الغني في مراحله المتنوعة بما فيها مراحل اندماجه بالفن التشكيلي كصفة عمومية أو اندماجه في التصوير المعادل للأدب. الخميس 25/4/2013: صورة مؤرخ المؤرخ كمال الصليبي (1929 - 2011) أعطى وقتاً للأصدقاء وللطبيعة قد يعادل ما أعطى لانجاز مؤلفاته. ومن أصدقائه محمود شريح المنتمي الى رأس بيروت، منارة لبنان وفلسطين وديار العرب، وهو جمع مقابلاته مع الصليبي ومهد لها بمشاهد للمؤرخ، في كتاب أصدرته دار نلسن (لبنان، السويد 2013) عنوانه «كمال الصليبي أستاذي والتاريخ - ذكريات 1973 - 2011». من التمهيد هذه المقاطع: «مساء الرابع والعشرين من آب (أغسطس) 2011 زرت أستاذي كمال الصليبي برفقة الصديقة رُلى الزين تلميذته أيضاً في أميركية بيروت في ما مضى. في تلك الأمسية كان جالساً على شرفة شقته المطلة على المتوسط يحل شبكة كلمات متقاطعة بالانكليزية جرياً على عادته قبل تناول العشاء. جئت مودّعاً ليلة سفري الى فرنسا. حادثنا لساعتين. كان قلقاً على أحداث مصر وسورية واليمن وخشي من دخول المنطقة في نفق مظلم يؤدي الى التجزئة والفوضى على غرار العراق. ومما قاله أنه يصعب على المرء ألا يُصاب بهبوط نفسي متى كان مرهقاً وحساساً وطبيعياً. وألمح الى أنه عانى من هبوط نفسي حاد منذ مطلع شبابه، لكنه لم يكن يدري كنهه إلا في وقت لاحق حين أعلمه الأطباء بحقيقة ما يعتريه. كان يتباهى في مجلسه المنعقد صباح كل أحد في منزله بأنه لما وُلد كان مصرياً، فقد كان والده يحمل الجنسية المصرية مكافأة له على خدمته طبيباً في الجيش المصري في السودان. أما سياسياً فأعلن في سنواته الأخيرة أنه عثماني الهوى. كان في عيشه متقشّفاً. مأكله بسيط ولباسه أنيق. لم يحب الظهور ولم يرضَ بحفل تكريم. متواضع أحب جيرانه وأحبوه. كان يقص شعره صباح كل سبت. أحب الشاي واقتنى أصنافه وكان المفضل اليه Lapsang Suchung. آخر محاضرة عامة له كانت في صيف 2010 في الجامعة الأميركية عن دور المسيحيين العرب في الشرق، أعقبها بلقاء على غداء في مطعم سقراط بدعوة من جلال حرب وقرينته لمى جرّاح تناول فيه كل ما نهاه طبيبه عنه، وتحدّث خلاله عن مطواعية اللغة العربية. كان يلح على أن المرء يقع في الغرام الحقيقي مرة في حياته وهو في الرابعة عشرة ثم انه لا يعود بريئاً. أحب الإقامة في المستشفى والخضوع للعمليات الجراحية. كان يتمنى ان يتوفى قبل أن يخرف أو أن يدخل في غيبوبة. قبل شهر من وفاته جاء بخبير ضرير ليدوزن له البيانو وشهد فيلماً عن حياة موتسارت. مهر في عزف البيانو وكتب الأوبرا. يوم التقاه مروان عبادو في آب 2010 أعلمني أن صوته غنائي بامتياز. كان يهتم بشتلات الزهور والورود على شرفة مسكنه المطلة على المتوسط وكانت واسعة يجلس فيها منى اعتدل الطقس، لكن، هناك شتلة يعتني بها بشكل خاص فيشذبها ويسقيها بنفسه. أعلمني أنها كانت على شرفة سكن أمه في منزلها القديم في شارع السادات، وأنه أحضرها معه الى شرفته منذ زمن طويل. كان يراقب تفتّح أزاهيرها بشغف ولطالما كان ينحني فوقها ليشتمّ أريجها فيملأه الحبور. كان وهو في الثمانين يصرف وقتاً طويلاً في مراسلة صحبه. اقتنى ببغاء وهو في الخمسين ودرّبه على النطق وسمّاه «كوكو»، فكان كلما أدار مفتاح باب مسكنه صاح «كوكو»: مرحباً أهلاً وسهلاً. ولم يكن «كوكو» دائماً في قفص إذ كان الصليبي يطلقه في منزله فيختال على مكتبه ورفوف كتبه. وذات يوم طار الببغاء عن الشرفة ولم يعد، فانطلق صاحبه يبحث عنه في رأس بيروت، ولما يئس أعلن في صحيفة «النهار» عن جائزة لمن يعيده اليه، لكن «كوكو» اختفى وبقي الصليبي يذكره بالخير. كان يخبرنا في مجلسه، ونحن تلامذة، ان خروجه من منزله صباحاً يعدّل من نظرية صاغها ليلاً، أي أُسّ منهجيّته في كتابة التاريخ».