لم يكن موعدي مع «الجنادرية» على امتداد السنوات الأخيرة موائماً لارتباطات خاصة وظروف معينة، وأتذكر في آخر مرة عام 2007 أنني ذهبت إلى الرياض لحضور المهرجان ولكن أبلغتني زوجتي فور وصولي بوفاة والدتها فعدت على الفور في اليوم نفسه. وبذلك لم تتح لي الظروف حضور مهرجان «الجنادرية» إلا هذا العام عندما تلقيت دعوة كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز وزير الدولة قائد «الحرس الوطني». ووجدتني في الطائرة السعودية مع كوكبةٍ من المفكرين والمثقفين ورجال الإعلام من مصر، حيث شاركنا جميعاً في فاعليات الدورة الثامنة والعشرين لمهرجان التراث والثقافة «الجنادرية». وقد شرفتني الوفود المختلفة من البلاد العربية والإسلامية بأن ألقي كلمة باسمهم أمام صاحب السمو الملكي ممثل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قبيل انتهاء الدورة وتحدثت فيها عن أهمية العامل الثقافي في العلاقات الدولية المعاصرة وكيف أن الأطروحات الثلاث التي صدرها الفكر الغربي للعالم في العقدين الأخيرين وهي «العولمة» و «صراع الحضارات» و «الحرب على ما يسمى الإرهاب» هي كلها ظواهر ثقافية بالدرجة الأولى، ثم عرجت في «شيفونية» مستترة إلى الحديث عن العلاقات المصرية – السعودية، فقلت إن المآذن في مصر غرب البحر الأحمر تنادي «لا إله إلا الله» فترد عليها المآذن في السعودية شرق البحر الأحمر قائلةً «محمد رسول الله»، وكيف أن وصية العاهل الموحد المغفور له الملك عبدالعزيز قد اختصت مصر بمزيد من الحب والتعاطف، ودعوت الله لدول العالمين العربي والإسلامي بالاستقرار والمنعة والرفعة. ثم كرمني الأمير الشاب صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن سلمان بعشاء خاصٍ في قصره ثم كان التكريم الأكبر هو لقائي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد في مكتبه في وزارة الدفاع قبيل مغادرتي الرياض بساعات قليلة حيث تطرق سموه إلى المخاطر المحيطة بالعالمين العربي والإسلامي وكان مما قاله في تحيته للشعب المصري الشقيق أن والده رحمه الله لم يزر بلداً خارج الجزيرة العربية إلا مصر تقديراً لها وحباً لشعبها. ثم دعا الله سبحانه وتعالى بالاستقرار والرفاهية للكنانة وسائر بلاد العرب والمسلمين ويهمني هنا في تعقيبٍ ثقافي وسياسي على مهرجان «الجنادرية» أن أشير إلى الملاحظات التالية: أولاً: إن هذا المهرجان التراثي الثقافي إذ يدخل عامه التاسع والعشرين فإنه يمثل إضافة إيجابية للثقافة العربية ويقف في استمرارية وتواصل إلى جانب مهرجانات أخرى نتذكر منها الآن مهرجان «أصيلة» قرب طنجة الذي يرعاه المثقف المغربي الكبير محمد بن عيسى ومهرجان الشعر في مربد في العراق من قبل، إضافة إلى معارض الكتاب في الشارقة وأبو ظبي والقاهرة، فضلاً عن مناسبات عديدة في العاصمة العربية الأنيقة بيروت، وبذلك تتوالى أعراس الثقافة وتتألق من بينها «الجنادرية» من أرض الوحي ومهبط الرسالة. ثانياً: إن الحضارة العربية الإسلامية التي تألقت في «دمشق بني أمية» وازدهرت في «بغداد العباسيين» في العصرين الأول والثاني ثم توهجت في مصر والمغرب العربي، توحي كلها بأن الهوية العربية نتاج لتلك الحضارة الإسلامية والتراكمات التي سبقتها من فرعونية وآشورية وبابلية وفينيقية وغيرها من الحضارات الكبرى أو الفرعية والتي انصهرت كلها في بوتقة عربية خرجت من «الجزيرة» تحمل القرآن الكريم ديناً ولغة وثقافة، فكان من الطبيعي أن نعتز كثيراً بالسلعة الثقافية التي نقدمها للعالم في كل وقت، فعلى أرضنا تربض آثار لا نظير لها وإمكانات بغير حدود، فالحجر في بلادنا يكاد ينطق بالتراكم الحضاري والتتابع التاريخي والزخم الثقافي. ثالثاً: لقد كنت أنظر حولي في مهرجان «الجنادرية» فأرى الإيراني إلى جانب العربي، والكردي معهما ولا تكاد تعرف الشيعي من السني، فالكل جاء إلى المهرجان يحمل رصيده الفكري وتراثه الثقافي بلا تفرقة أو استثناء، وتلك واحدة من قيم الحكم السعودي حتى أن الملك عبدالعزيز الكبير استقدم في حاشيته ومستشاريه نسبة من العرب المسيحيين سواء من «موارنة الشام» أو «أقباط مصر». ولقد ترك ذلك رصيداً إيجابياً لدى المسيحيين العرب تجاه السعودية أشعر به شخصياً في بلاد الشام ومصر خلال مناسبات متعددة، ولا شك أن «الجنادرية» مهرجان دوليٌ وعربي وسعودي ويكفي أن أتذكَّر أن الذي كان يجلس بجانب الأمير قائد الحرس الوطني أثناء الحفل الختامي هو رئيس وزراء أسبانيا الأسبق الذي كنت أجلس إلى جواره وهو يعبِّر عن سعادته الزائدة في هذه المناسبة النادرة. رابعاً: أدهشني ذلك الحجم المتاح من حرية الحوار والقدر المفتوح من مرونة الرأي وسماحة الفكر ورحابة النقاش. ولقد رأيت أثناء الندوات وجهات نظر متباينة وأفكاراً متعارضة ومع ذلك لم أشعر بحجرٍ على رأي أو مصادرةٍ لفكر، فكان هناك من يدافع عن سياسة إيران وهناك من يعترض عليها في جوٍ ثقافي رصين لا تعكره خلافات الرأي ولا تعددية التوجه، وقد لفت نظري أن رجال الإعلام المرافقين هم أيضاً من شتى الصحف العربية والأجنبية وهم يحملون بالتالي آراء متباينة وأحياناً متضاربة ومع ذلك فحرية الرأي بلا حدود أو قيود وقديماً قالوا «إن الحاجة أم الاختراع» ونحن نضيف إليها الآن أن «الحرية أم الإبداع». خامساً: حفل برنامج مهرجان «الجنادرية» بممارساتٍ تقليدية للفلكلور الشعبي وتلك قيمة حضارية للإحياء الثقافي والبعث الفكري المصحوب بالقيم والتقاليد التي تكاد تضيع في زحام الزمان والمكان! خصوصاً في ظل «ثورة الاتصالات الحديثة» والنقلة النوعية في «تكنولوجيا المعلومات» لا سيما أن التغييرات الهائلة والتطورات الملموسة في الفضاء والأرض معاً تؤكد كلها أننا أمام عالم مختلف وتحول غير مسبوق في تاريخ البشرية. سادساً: جاء احتفال مهرجان «الجنادرية» هذا العام مثلما حدث في العامين الماضيين في أعقاب ثورات ما يسمى «الربيع العربي» وحالة القلق التي تسود عدداً من الأقطار العربية فضلاً عن التشرذم والتوتر اللذين نشعر بهما من خلال «الميديا» النشطة والتطورات العصرية الحالية، لذلك فإن أي تجمع ثقافي سوف يحتوي بالضرورة على العديد من ألوان الفكر وأنواع الرأي ونماذج الرؤى. سابعاً: لقد جاءت «الجنادرية» هذا العام والصراع يكاد يمزق المنطقة، فنزيف الدم يجري في سورية وحال الفوضى تعم مصر وأصبحنا أمام وضعٍ غير مسبوق من حيث درجة الصراع وحدته بين الأقطاب المختلفة فضلاً عن أن «القضية الفلسطينية» ما زالت تراوح مكانها كما أن «الحرب على الإرهاب» لم تدخل مرحلة جديدة لأنها لم تخرج من سياقها منذ نهاية القرن الأخير، وفي ظننا أن «الثقافة» بما تحتويه من «آدابٍ» و «فنون» هي الوعاء الطبيعي للقيم الإنسانية الراقية والأفكار البشرية السامية ونحن نظن أنه من دونها لا تستقيم الحياة ولا تمضي الأمور! إن الذين يرصدون الحراك الثقافي في المنطقة العربية لا بد أن يدركوا أنهم أمام تحولاتٍ واعدة في هذه المنطقة الحساسة من قلب العالم لأنها تعكس درجة التطور وتمثل «ترمومتراً» لمستقبل الحياة في العالمين العربي والإسلامي، ويجب أن نسجل في النهاية بكل الاعتزاز حالة الانضباط الملحوظ في الشارع السعودي على نحوٍ لا يتعارض مع ممارسة الحرية وقيمها المطلوبة. إن القيمة الحقيقية لمهرجان «الجنادرية» وغيره من المهرجانات الثقافية العربية أنها ليست مجرد تجمعات لقضاء فترةٍ يدور فيها حوارٌ ونقاش، ولكن لأنها تؤكد خصوبة الفكر والرغبة في الإبداع وملامسة واقع الحياة الطبيعي، لذلك فإننا نقول إن «مهرجان الجنادرية» هو «عكاظ» فكري يقدم التراث والثقافة والسياسة أيضاً. * كاتب مصري