هبط من الباص بقوة الدفع. وقف وسط الجموع التي سبقته في النزول من الباصات الآتية من الأقاليم. وحين وجد نفسه في كادر الكاميرا الصديقة المثبتة، أخذ يرقص يميناً ويساراً هاتفاً: «الشعب يريد تطهير القضاء». وكزه أحد الواقفين طالباً منه التوقف عن الرقص مع الاستمرار في الهتاف، لكن يبدو أنهما متلازمان. ونظراً إلى صعوبة تحريك الكاميرا وسط الحشد الغفير الذي جاء ليطهر القضاء، حاول المراسل المسكين أن يجذب انتباه المتظاهر الراقص بسؤاله: «لماذا أتيت اليوم؟»، فوجئ المتظاهر بالسؤال، فكرر الهتاف نفسه في الميكروفون، لكن المراسل سأله مجدداً: «وما تصورك للطريقة المثلى لتطهيره؟». سكت برهة ثم قال: «هم متضايقون من الريس مرسي، لأن أول سجادة صلاة دخلت القصر الجمهوري كانت في عهده، ثم يأتي باسم يوسف ويشتم سيادة الريس. الشعب يريد تطهير القضاء». جمعة «تطهير القضاء»، أو القضاء على القضاء أو محاسبة القضاء بتهمة إزعاج السلطات «الإخوانية»، بدأت بداية مبكرة جداً حتى قبل استيقاظ الإخوة المشاركين، إذ بدأت وزارة الداخلية بحملة لاعتقال مؤسس مجموعة «بلاك بلوك» وأعضائها، في مشاهد أشبه بأفلام الحركة، وهو ما لاقى تكبيراً وتهليلاً من أعضاء الجماعة ومحبيها وحلفائها من المشاركين في جمعة التطهير. ورُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد، إذ تشاء الأقدار أن تتزامن حملة إلقاء القبض على أعضاء «بلاك بلوك» وتحذيراً أطلقته المجموعة أول من أمس للجماعة من نزول ميدان التحرير في جمعتها التي أعلنتها لتطهير القضاء. وفي جمعة التطهير، رفرفت الأعلام على سماء دار القضاء العالي، فعادت بعد غياب رايات التوحيد السوداء جنباً إلى جنب مع الأعلام المصرية، كما بزغت الأعلام السورية من دون سبب واضح، وانتشر اللون الأخضر الزاهي على جباه كثيرين ربطوا عصابة مكتوباً عليها «لا إله إلا الله، محمد رسول الله». «يا الله يا الله طهر مصر من القضاء» و «حسبي الله ونعم الوكيل» و «إسلامة إسلامية»... هتافات ملأت أرجاء شارع 26 يوليو حيث مقر دار القضاء العالي، لتغلف المكان بهالة من الروحانية لولا العبارات المكتوبة والمترددة، والتي ألصقت كلمات مثل «عرة» و «مجرمين» و «مرتزقة» و «مرتشين» بقضاة مصر الأجلاء، الذين شهد لهم الرئيس محمد مرسي نفسه قبل أشهر بالنزاهة والشفافية. «الكنبويون» الذين قبعوا في بيوتهم والثوريون من القوى المدنية، ممن قرروا عدم النزول أمس منعاً للاحتكاك مع «المطهرين» للقضاء، أمضوا يومهم بين مشاهدة مقطع الفيديو الأكثر انتشاراً هذه الأيام، حيث الرئيس يتحدث عن احترامه الجمّ للقضاء المصري النزيه وفخره الشديد باستقلاليته الأكيدة. كلمات الرئيس ظلت تتردد آلاف المرات وهو يقول في حديث قبل أشهر: «أؤكد الفصل بين السلطات. القضاء مستقل حر، لا ينبغي أبداً لأحد أن يتدخل في شأنه، لأن القضاء المصري مفخرة لنا كلنا». وبما أن مفخرة الأمس ليست بالضرورة مفخرة اليوم، ولأن السياسة لا تعترف بالثبات على المبادئ، جاءت هتافات جمعة تطهير القضاء لتكون على الأرجح خريطة الطريق التي ستنتهجها الجماعة في التطهير «إخوان ستايل». «عجل عجل بالقوانين ما فيش قاضي بعد الستين»، ومعها اللافتات التي رفعها الإخوة المترجلون من باصات النقل الجماعي والمطالِبة بمذبحة ثانية للقضاء (مذبحة القضاء الأولى في العام 1969 على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر) حتى لا تدخل البلاد في دائرة مفرغة تعني أن مصر باتت قاب قوسين أو أدنى من خروج قانون تعديل السلطة القضائية وتخفيض سن التقاعد إلى 60 عاماً. ويأتي مع هذا المطلب «الإخواني» عزل وزير العدل أحمد مكي، الذي كرر مراراً وتكراراً رفضه هذا القانون، وهو ما فسرته المعارضة في ضوء المثل الشعبي القائل «آخر خدمة الغز علقة». ويتوقع في ضوء مطالب التطهير كذلك، تحركٌ ما في سبيل الإفراج عن عضو «حازمون» عبدالرحمن عز، المحبوس على ذمة التحقيق في اتهامه باقتحام مقر حزب «الوفد» وإحراقه، وهو المطلب الذي رفعه «الإخوان» أمس. أما غير المتوقع، فهو المضي قدماً في إجراءات استدعاء الرئيس مرسي للاستماع لشهادته في قضية اقتحام سجن وادي النطرون وهدم جدرانه. أما جدران دار القضاء العالي، فأخضعها متظاهرو «الإخوان»، الذين يؤمن بعضهم بأنه خرج في ثورة جديدة امتثالاً لما قاله الرئيس قبل أيام من أنه قد يدعو إلى ثورة جديدة، ل «لوك» جديد، حين جاؤوا للتظاهرة مسلحين بالدهان والفرشاة، وأعادوا طلاء جدران الدار «بعد أن دنسته كتابات 6 أبريل وبلاك بلوك الغوغائية» وصور الشهداء الذين قتلوا في التظاهرات في عهد مرسي.