من التقاليد العريقة في الجامعات ومراكز البحوث الأميركية تكريم العلماء المتفوقين والإشادة بإنجازاتهم الأكاديميّة والعلميّة، بصرف النظر عن أصولهم الإثنيّة والثقافية. وتحضر هذه التقاليد في الحفاوة المُسجّلة في محضر انتخاب الأميركي - المصري نصر مصطفى غنيم زميلاً في «الجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين»، في عام 2006، إذ جاء فيه أن غنيم «أستاذ ومُرَبّ ومخترع وباحث متميّز. اكتشف نوعاً جديداً من الفولاذ الذي يستخدم في عملية الانشطار النووي وأنظمة اندماج الطاقة. وأصبح في حياته المهنية، أحد أبرز المشاهير عالميّاً في تطوير المواد المقاومة للإشعاع المستخدمة في تطبيقات الطاقة والفضاء، بل إنه من النخبّة المرموقة في الحوسبة الكموميّة Quantum Computing». وُلِد غنيم في الإسكندرية (1948)، وحصل على بكالوريوس في الهندسة النووية من جامعة الإسكندرية (1971). وعقب تخرّجه، تلقّى منحة دراسيّة من جامعة «ماك ماستر» الكنديّة التي نال منها درجة الماجستير في هندسة الفيزياء (1974)، وعيّن مهندساً نووياً في مفاعل «وايت شل» Witeshell لبحوث الذرّة في مقاطعة مانيتوبا (كندا). ثم انتقل إلى جامعة ويسكونسن الأميركية، مُتابعاً تحصيله الأكاديمي المتقدّم، فنال درجة الدكتوراه في الهندسة النووية (1978). بعدها، قدّم دراسة لجامعة كاليفورنيا عن «تأثير الإشعاعات النوويّة في خصائص المواد في المفاعلات الذريّة». وإثر ذلك، عُيّن أستاذاً مساعداً في قسم الهندسة الميكانيكية المُتّصلة بالطيران والفضاء. ثم تدرج ليحوز منصب أستاذ دائم ونائب رئيس لقسم علوم المواد والهندسة الميكانيكية. وما لبث أن ترأسّ هذا القسم، وما زال في هذا المنصب لحد الآن. نموذج افتراضي للتفكّك بين عامي 1994 و2010، حصل غنيم على ثلاثة ألقاب للزمالة من «الجمعية النووية الأميركية» و«الجمعية الأميركية للمهندسين الميكانيكيين» و«الأكاديمية الأميركية لعلوم الميكانيكا». كما مُنح جوائز عدّة تقديراً لتفوّقه الأكاديمي والمهني، ورصيده الكبير في مؤسسات البحوث والمختبرات الأميركية، وشهرته العلمية في المؤتمرات الدولية. وتشمل هذه الجوائز: «الإنجاز عبر الحياة المهنيّة» الصادرة عن «الجمعية النوويّة الأميركية»، و «الإنجاز المتميّز» من «الجمعية النوويّة الأميركية – قسم اندماج الطاقة»، «بحوث الزمالة» من «الجمعية اليابانية لتعزيز العلوم»، و «الأستاذ المتميّز وأفضل عالم شاب» من جامعة كاليفورنيا وغيرها. كما منحّ جائزة خاصة لوضعه أول ورقة دوليّة في ديناميكيات التفكّك (Dislocation (Dynamics1986. وتمحورت تلك الورقة حول «استخدام تقنية المحاكاة الافتراضية للكومبيوتر في تشكيل نمط التفكّك في المواد تحت تأثير الإشعاعات والحرارة المرتفعة». وفي عام 1987، كرّمته فرنسا لمشاركته في تأسيس علم ديناميات التفكّك المتّصلة بالليونة البلاستيكية الميكروسكوبية Dislocation Dynamics for microlasticity. وانتُخِبَ رئيساً للمؤتمر الدولي الثاني ل «تصميم المواد ذات المستويات المتعددة» (لوس أنجليس، 2004). وعُيّن عالِماً زائراً في مختبر «أوك ريدج» الوطني الأميركي، كما شغل منصباً مماثلاً في قسم الفيزياء النظرية وهيئة الطاقة الذريّة، في مركز «هارويل» Harwell في بريطانيا. ألّف غنيم أربعة كتب هي: «عدم الاستقرار والتنظيم الذاتي للمواد الأساسيّة في عِلم النانو» Instabilities and Self-Organization in Materials-fundamentals of Nanoscience، و «تطبيقات في تصميم المواد النانوتكنولوجيا» Applications in Materials Desig Nanotechnology (منشورات جامعة أوكسفورد - 2008)، وكتاب «أنماط عدم استقرار المواد وعيوبه» Patterns, Defects & Materials Instabilities (هولندا 1990)، و»البلاستيك والخلل في عدم استقرار المواد». وفي عام 1986، سجّل براءة اختراع تحت عنوان «التنشيط المنخفض للفولاذ الحديد» low – activition ferritic steels حول خصائص الفولاذ المستعمل في مجالات الطاقة النوويّة، وطُرُق استخدامه في تقليل الإشعاعات الذريّة. فولاذ مُشعّ لكنه صديق للبيئة! في لقاء مع «الحياة»، بيّن غنيم أن بحوثه تتمحور حول نظرية مفادها أن «المواد تُنظّم نفسها من الداخل، وتقاوم في الوقت ذاته ما تتعرض له من تغيّرات خارجية وعوامل بيئية... إنها تشبه الشجرة التي تتعرض لرياح قوية فيميل جزء منها، في حين يبقى الجزء الداخلي على نموه وقوته وتماسكه ومقاومته للرياح. الأرجح أن المواد الصلبة الفولاذية والمواد المقاومة للحرارة في الأجهزة الإلكترونيّة، تتمتع بخواص كامنة لجهة عدم استقرارها وإمكان تفكّكها من الخارج من جهة، ومقاومتها الذاتية من الداخل من جهة أخرى. بقول آخر، تمتلك هذه المواد في داخلها عناصر الضعف والقوة معاً». من هذا المنطلق، انكب غنيم على دراسة عيوب تصاميم المواد الميكانيكية والفيزيائية، واستنبط طرقاً لكشفها وتحليلها. وشملت هذه الأعمال الفراغات والشقوق والتشوّهات والتكسّرات وعدم وصول الحرارة وغيرها، بغية الوصول إلى معلومات تهيئ لصنع مواد خالية من العيوب الفنيّة، مشيراً إلى أن هذه البحوث تموّلها وزارتا الطاقة والدفاع الأميركيتان. وأوضح غنيم أن بحوثه شملت أيضاً دراسة «أضرار المواد الموجودة في بيئات قاسية» كالمنشآت الذرية ومفاعلات الإندماج النووي Nuclear Fusion ومحركات الصواريخ، خصوصاً عندما تتعرض للتآكل والصقيع والتشوّه والتجزّؤ، وضربات الأيونات النشيطة، وتدفّقات ال «بلازما» الذريّة (وهي المُكوّنات التي تتدفق من الذرّة)، والإشعاع الكهرومغناطيسي. ووضع دراسات عن طريقة صنع ال «بلازما» الذريّة بطُرُق تُمكّن من صُنع مواد اصطناعية مبتكرة، بمعنى أنها غير موجودة طبيعيّاً، واستخدام الليزر لمعالجة أسطح المواد وجعلها قوية جداً فتقاوم تأثيرات البيئة. ووضع أوراق بحثيّة عن معالجة ظاهرة عدم استقرار المواد وتفاعلها مع المُكوّنات الذريّة الدقيقة كالنيترونات والإلكترونيات والفوتونات. وأوضح غنيم أن هذه البحوث ترتكز على نظرية التكوين الداخلي للمواد، بمعنى أن المادة التي يتغيّر تكوينها تحت تأثير الطاقة القويّة، تكتسب خصائص لم تكن موجودة فيها قبلاً. وأفاد بأنه عالج أيضاً خصائص المواد الصلبة المستخدمة في بناء الطائرات والصواريخ والمفاعلات النووية، التي يتطلب عملها درجة عالية جداً من الحرارة المترافقة مع كميّات كبيرة من الأشعة المضرّة بالبيئة. ووفق غنيم، فإن الفولاذ الذي يستخدم في تغليف المفاعلات النوويّة خشية تسرب الإشعاعات منها، يمتص تلك الإشعاعات، بل إنه يبقى مُشعّاً لفترة طويلة، مع ملاحظة أن التخلّص من هذا النوع المُشعّ من الفولاذ ربما يستغرق آلاف السنين، ما يلحق أضراراً جسيمة بالبيئة، ويزيد من تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. ولتلافي هذه الدائرة السلبية من التفاعلات والأضرار، عمل غنيم على إدخال تغييرات في تركيبة الفولاذ، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحديد والمغنيزيوم، بطُرُق أدّت إلى رفع قدرة هذه المواد على امتصاص الإشعاعات النوويّة. وكذلك صار ممكناً التخلّص من تلك المواد، بعد تشبّعها بالأشعة، خلال ما يزيد قليلاً عن مئة سنة، وليس آلاف السنوات. وأصبحت هذه المواد قابلة للطمر، من دون التسبّب بأذى للبيئة والبشر. أوضح غنيم أنه يتعاون مع علماء من جنسيات مختلفة لتأسيس مجال جديد في علوم المواد، ينطلق من نظريات علمية وحسابات رياضية، لوضع نماذج بتقنية المحاكاة الافتراضية للكومبيوتر، عن المواد التي تتعرض للحرارة أو الأشعة، ما يتيح التنبؤ في «تصرّف» المواد في البيئات القاسية. وأشار إلى أن هذه البحوث تخضع لتجارب كثيرة ومتكررة، ما يجعلها مكلفة جداً، إضافة إلى كونها تطلّب وقتاً طويلاً ومجهوداً كبيراً. كما كشف غنيم عن مشروع جديد يعمل عليه بالتعاون مع جامعة «برنستون» و «مختبر الدفع النفاث» في باسادينا (وهو تابع ل «الوكالة الأميركية للفضاء والطيران ناسا»)، مُبيّناً أن مدته هي 5 سنوات، وأنه مُموّل من موازنة البحث العلمي في القوات الجويّة الأميركية. ويقضي المشروع بوضع تصاميم متطوّرة لمواد تستخدم في مجال الصواريخ التي تعمل محركاتها بواسطة الدفع الكهربائي بدلاً من صواريخ الدفع الكيميائي المستخدمة حاضراً، والتي تملأ خزاناتها بوقود من الأوكسجين أو الهيدروجين. في السياق ذاته ينكب غنيم على تصميم أقمار اصطناعية تتحرك بوقود ال «بلازما» الذريّ الأزرق اللون الذي يضمن استمرارها لسنين طويلة، ويتيح لها الدوران حول الأرض وتعديل مسارها وإمكان إرجاعها بعد سنة أو سنتين. وأشار إلى أن هذا النموذج له تطبيقات في صنع مركبات فضاء ربما ترسل إلى القمر أو المريخ. وأوضح أنه يدير الآن مختبراً للميكانيكا الدقيقة في جامعة كاليفورنيا، يضم 90 كومبيوتر ضخماً، ويتولى المشروعات المتعلقة بتصميم مواد نانوية تستخدم في ظروف قاسية وكيفية حوسبتها (بمعنى صنع نموذج افتراضي عنها في الكومبيوتر). واستطرد بالقول إن هذه المواد ما زالت في مرحلة البحث عن خصائصها الفيزيائية والميكانيكية، وفهم تركيبتها الداخلية، ودرجة التحكّم بها، وأوجه استعمالها. على رغم تعذّر عودته إلى مصر، لم ينقطع غنيم عن زيارة وطنه الأم بين الحين والآخر، ولم يتوانَ عن تأسيس مشروعات تعاون بين مجموعات من العلماء الأميركيين والمصريين، تهدف إلى تطوير التعليم العالي، وتوفير منح جامعية للطلاب المتفوقين مع تزويدهم بالمحاضرات عن بُعد بواسطة الإنترنت، إضافة إلى محاولة تأمين فرص عمل في الولايات المتحدّة للخريجين من الجامعات المصري.