ليست التقنية وحدها هي التي تختلف حين يتناول سينمائي أجنبي، في الغالب، موضوعاً ذا صلة مباشرة بمنطقتنا ومشكلاتها، بل عمق الرؤيا يختلف كذلك، ويتبلور هذا الاستنتاج ويتكرر كلما شاهدنا حزمة من الأفلام دفعة واحدة كما حدث في الدورة 15 لمهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية، لتطرح بدورها أسئلة تبرر الاستنتاج الذي قد يبدو بديهياً ليس ثمة من حاجة للتذكير به. لكن وبسبب من ديمومة السينما نفسها وحيوتها، ولأن نقاط الاختلاف في المقارنة بين المنتج المحلي والأجنبي ما انكفأت تتعمق، ما يمنح الأسئلة مبررات طرحها، على الأقل حتى حدوث تغيير جدي تضيق بفعله الهوّة بين منتجي «البضاعة» السينمائية الواحدة وحينها، وحينها فقط، يمكن الحديث عن مستويات فيلمية وليس عن تباينات تقنية وأكاديمية واسعة تجعل جزءاً غير قليل من المنتج المحلي، على ما فيه من استثناءات جيدة لا يمكن تجاهلها، فقيراً وأصحابه والمشتغلين فيه بخاصة في حقل الوثائقي، بحاجة الى إلمام بأدوات انتاجهم ومن ثم بتطوير مستوى ابداعهم السينمائي! عودة للتطبيقات العملية على الفكرة قد يصلح أخذ فيلم «عودة الى الساحة» لبيتر لوم، مثالاً، فهو عاد الى ساحة التحرير القاهرية بعد أسابيع من انتصار «ثورة يناير» المصرية ليقرأ مقدار التغييرات الحقيقية التي طرأت على هيكيلية المجتمع والمؤسسات الأمنية، حتى يصح تسميتها «ثورة» أو على الأقل، حدثاً تاريخياً يحمل في نواته عوامل تغيير ثوري واعد. ولعل أول ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم، حاله حال الأفلام المنتجة بحرفية سينمائية عادية وليس تلفزيونية، هو وضوح وجمال الصورة المأخوذة للمكان نفسه وللأحداث نفسها التي سبق أن أخذها من قبل مخرجون محليون. وعلى مستويات فنية أخرى كالمونتاج والصوت، سيتجلى الفرق كبيراً ومعه يتعمق الاستنتاج العام السابق حول مشكلة سينماتنا العربية المتمثلة بالدرجة الأولى في التصوير وفي شكل أكثر تحديداً في التصوير الخارجي ومعه وعلى المستوى نفسه سيظهر الصوت كمشكلة مصاحبة ومزمنة، ناهيك أصلاً عن طبيعة الشغل نفسه. ففي حين اتسم معظم الأفلام الوثائقية التي تناولت أحداث يناير في مصر بطابع تلفزيوني، تقنياً وحتى معالجةً، على مستوى اختيار الموضوع وتنفيذه وفق ما يستلزمه العمل التلفزيوني نفسه من سرعة وآنية، تتجلى فوارق أخرى تتعدى التقني الى الفكري وفهم المادة المطروحة للبحث البصري. وقد يفيدنا هنا التذكير بفيلم «2/1 ثورة» للدنماركي العربي الأصل عمر الشرقاوي الذي صوره بكاميرا ديجيتال، لكنه جاء عميقاً لعمق رؤية صاحبه الى ما كان يجري يومها أمام شقته في القاهرة. و «عودة الى الساحة» هو الآخر يتضمن فهماً لافتاً يحمل في طياته نبوءة السينمائي القارئ جيداً للمادة الخام التي تسجلها كاميرته ليخرج بعدها مشاهده وكأنه قد رأى للتو فيلماً مستقبلياً الى ما سيؤول اليه «الربيع العربي» ويغدو الربيع، للشواهد التي وثّقها من انتهاكات لحقوق الناس وظلم وتكرار لآية القمع البوليسي، شتاءً حزيناً. من ليبيا وعنها إذا كانت أحداث مصر قد غُطيت وثائقياً لدرجة كبيرة، فإن غيرها من مناطق «التغيير» لم يلتفت اليها السينمائيون في شكل كاف حتى الساعة، وليبيا مثالاً واضحاً، فجلّ ما اشتغله السينمائيون عنها لم يتعد الريبورتاجات التلفزيونية، وحتى فيلم «بنغازي: خلف جبهة القتال» للكولومبية ناتاليا أوروزكو الذي لا يخلو من تلك السمات، فإنه وفي ناحية البحث عن غير السائد والمروّج إعلامياً، يستحق ذكره كنموذج يبيّن الفرق الملموس بين السهولة في التناول كالذهاب الى ساحات المعارك أو إجراء المقابلات المطولة وزيارة قصور القذافي... الخ، وبين البحث عما هو أعمق وله صلة بالسؤال المقلق عن قدرة المجتمع على التغيير والانتقال الى مرحلة جديدة، أم ان الأمر برمته لا يتعدى انتصاراً عسكرياً؟ في فيلمها، يبدو الانحياز الى الجانب المدني، المستقبلي، من بنغازي هو الغالب كغلبة جماليات العمل السينمائي فيه. في الجانب الفلسطيني، ثمة شبه اتفاق بين النقاد، عدا العرب منهم، على أن الأفلام التي انتجها سينمائيون اسرائيليون عن صراع مجتمعهم، خدمت الطرف الثاني على مستوى التعريف بقضيته والحاجة الى حلّها ورفع كل ظلم يمارسه جيشهم وقادتهم السياسيون ضد الفلسطينيين. وفي هذه الدورة من مهرجان تسالونيكي الكثير مما يؤكد هذا التصور أو الانطباع العام، ويؤكد ما نذهب اليه في اختلاف مستوى التناول السينمائي لقضايانا، ومشاكلنا معها والتي عالجت واحدة منها المخرجة اريت غال في فيلمها «ليل أبيض» عندما رافقت بعض الفلسطينيات في رحلتهن اليومية «العجيبة» من مناطقهن المعزولة بجدار الى داخل الحدود الاسرائيلية، سراً، في بحث عن عمل يعيل عوائلهن ويسد فراغ العطالة التي يعاني منها أزواجهن وأغلب رجال الطرف المغضوب عليهم. مرافقة المخرجة الإسرائيلية لنساء يفقن في منتصف الليل ويجازفن بأرواحهن لعبورهن الأسلاك الشائكة الفاصلة بين الطرفين للوصول فجراً الى «أرض موعودة» جعلت من فيلمها وثيقة حية عميقة وغاية في المتانة التقنية والاسلوبية كشفت درجة الإذلال الذي تمارسه سلطات بلادها ضد أناس كل ما كانوا يحلمون به هو تأمين رغيف خبزهم وربما في أحسن الأحوال توفير مستلزمات دراسة أطفالهم كحلم يدفعهن لخوض المغامرة يومياً من دون كلل يمضين في طريق الموت وهن يثرثرن في ما بينهن من دون تركيز طرداً للخوف الذي يعتريهن وتنفيساً، حين يأخذ منحى جدياً، عن بؤس يعشنه في طرف ثان معزول من البلاد. «ليل أبيض» تحفة وثائقية عن أمهات فلسطينيات شجاعات، نفذت بأدوات سينمائية متماسكة، هي قطعاً غير أدواتنا الفقيرة.