ساد هدوء حذر في محيط كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في القاهرة أمس لم يكسره سوى تجدد محدود للاشتباكات بين مجهولين وأقباط فجراً، بعد ليلة دامية سقط خلالها بحسب بيان وزارة الصحة قتيلان و89 جريحاً، كما تجددت المواجهات الطائفية في منطقة الخصوص العشوائية في محافظة القليوبية (شمال القاهرة) مساء أول من أمس، ما أدى إلى سقوط قتيل أضيف إلى خمسة آخرين سقطوا السبت الماضي. وعلى رغم الانتشار الأمني المكثف في محيط الكاتدرائية، إلا أن آثار معركة حامية الوطيس بدت واضحة على أرجاء المكان، فالحجارة منتشرة في الشوارع وآثار الحرق بادية على أسوار الكاتدرائية وأشجارها، إضافة إلى الدمار الذي لحق ببعض البنايات الملاصقة للكاتدرائية، فيما انتشرت سيارات محترقة أو على الأقل مهشم أجزاء منها. واستمر تجمع الأقباط داخل أسوار الكاتدرائية وخارجها. وتبادل الحكم من جهة والمعارضة والأقباط من جهة أخرى الاتهامات بالمسؤولية عن الاشتباكات، وسط تضارب الروايات. لكن المؤكد أن المواجهات تنذر بانزلاق طائفي، خصوصاً أن الشرطة بدت عاجزة عن السيطرة على المشهد، بل أنها باتت متهمة ب «رعاية الاشتباكات»، بعدما غابت عن تأمين تشييع جنازة قتلى مواجهات الخصوص في الكاتدرائية أول من أمس، وعندما تدخلت زادت من الغضب عندما شوهدت قنابل الغاز تتطاير في سماء الكاتدرائية وتسقط في ساحتها، فيما شوهدت إلى جوار عناصر الشرطة مجموعات من الصبية تتبادل رشق الحجارة مع الأقباط داخل الكاتدرائية من دون أن تتدخل الشرطة لتوقيفهم أو حتى إبعادهم. لكن الشرطة أصرت على رغم ذلك على تحميل الأقباط مسؤولية اندلاع العنف، وساندتها في ذلك قوى التيار الإسلامي التي روجت لقطات مصورة تظهر أشخاصاً قالت إنهم أقباط يهشمون سيارات وواجهات متاجر قبل اندلاع الاشتباكات. ولم يتمكن وزير الداخلية محمد إبراهيم الذي وصل إلى مكان الأحداث مساء أول من أمس من دخول ساحة الكاتدرائية بعدما صب الأقباط جام غضبهم عليه، ما دعاه إلى مغادرة المكان. واتصل الرئيس محمد مرسي هاتفياً أمس ببطريرك الأقباط البابا تواضروس الثاني، مندداً بأعمال العنف ومؤكداً أن «الاعتداء على الكنيسة اعتداء عليّ شخصياً». كما أمر بفتح تحقيق فوري وإعلان نتائجه على الرأي العام. وفي حين أعادت المواجهات المطالب بإقالة الحكومة، خرج رئيس الوزراء هشام قنديل ببيان أكد «تماسك عنصري الأمة مسلمين وأقباطاً داخل الوطن الواحد»، معتبراً أن «وجود مسلمين لمواساة إخوتهم المسيحيين في مصابهم في الكاتدرائية هو أصدق دليل على روح التعايش والتماسك الذي توصف به مصر». ودافع عن الأجهزة الأمنية، مؤكداً أن الشرطة «تتعامل بكل حسم تجاه هذه التجاوزات مع إعمال القانون تجاه من يحاول زعزعة استقرار هذا البلد ودب روح الفرقة بين أبنائه». وقدم تعازيه لأسر الضحايا، واعداً ب «تعقب الجناة ومثيري الفتنة من خلال فتح تحقيق عاجل للتوصل إلى الجناة وتقديمهم للعدالة على وجه السرعة». واستنفرت المؤسسات الإسلامية الرسمية لتطويق تبعات الفتنة، وأوفد شيخ الأزهر أحمد الطيب مستشاره إلى الكاتدرائية لتقديم العزاء، ودعا في بيان المسلمين والمسيحيين إلى «ضبط النفس والاحتكام إلى العقل»، مطالباً الطرفين ب «الحفاظ على الوحدة الوطنية». وناشد المفتي شوقي علام «العقلاء والمخلصين من أبناء مصر، التدخل الفوري لوأد الفتنة، واتخاذ كل السبل لتجنيب الوطن أخطار الاحتقان، والعمل على صيانة النسيج الوطني في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الوطن العزيز». وقدم المفتي العزاء في ضحايا أحداث مدينة الخصوص والكاتدرائية، داعياً إلى «إعلاء مصلحة الوطن بالتكاتف والوحدة والتآلف لدرء أي فتن، ولمواجهة هؤلاء العابثين بأمن مصر واستقرارها». واعتبر أن «ما يحدث من أحداث عنف وافتعال للأزمات بين جناحي مصر المسلمين والمسيحيين، ما هو إلا وسيلة لاستدراج مصر إلى فتنة كبرى يجب أن نحول جميعاً دون وقوعها بكل ما نملك من جهود وإمكانات». واعتبر الناطق باسم الكنيسة الكاثوليكية المصرية الأب رفيق جريش ما حدث «شيئاً مؤسفاً»، محملاً أجهزة الأمن مسؤولية الأحداث. وأشار إلى أن «الكاتدرائية رمز المسيحية في مصر وليست كنيسة صغيرة في حارة كي يطلق عليها القنابل المُسيّلة للدموع». ورأى أنه «كان يجب على الأمن أن يتنبأ بما حدث ويعزز من قواته قبل قدوم جنازة ضحايا الخصوص، وما حدث هو قصور أمني». ودان «مجلس كنائس مصر» الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية في العباسية. وقال في بيان مقتضب إنه «يدين في شدة الاعتداء على الكاتدرائية الكبرى في العباسية ويؤكد أن دور العبادة خط أحمر ويطالب أجهزة الدولة بالتدخل العاجل». سياسياً، دانت «جبهة الإنقاذ الوطني» المعارضة الاشتباكات وحملت جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة والرئيس مرسي ووزارة الداخلية المسؤولية عن العنف. وقالت الجبهة في بيان إن شهود عيان وصفوا الأحداث «بالمدبرة بغرض إشعال فتنة طائفية في البلاد». وطالبت بإجراء «تحقيق مستقل وشفاف للوقوف على المحرضين والفاعلين الحقيقيين وراء هذه الاشتباكات، مع ما رصده كثيرون من وجود أشخاص في مناطق متفرقة وسط القاهرة يحاولون إشعال الفتنة». ورأت أن «الاشتباكات التي تأججت على وقع أحداث الخصوص، بالتزامن مع تصاعد الغضب الشعبي ضد سلطة الإخوان وسياساتهم الاقتصادية والاجتماعية التي تزيد المصريين فقراً، وسعيهم إلى اختطاف الدولة ومؤسساتها كافة وإنتاج ما هو أخطر من الحزب الوطني المنحل، تبدو مقصودة بغرض شغل المصريين عن العدو الحقيقي الذي يسير بمصر وأهلها جميعاً إلى الهاوية». ودعت «أبناء مصر، مسلمين وأقباطاً، إلى التحلي بأقصى درجات الوعي لإدراك هذه المؤامرات التي لا تتورع عن دفع المصريين إلى اقتتال داخلي وتفكيك مصر وتدميرها». ودعتهم إلى «التكاتف سوياً للتصدي لهذا المشروع المدان وبناء مصر التي حلموا بها في ثورة 25 يناير وطناً للجميع شعاره: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية». وطالب حزب «مصر القوية» الإسلامي برئاسة عبدالمنعم أبو الفتوح بإقالة حكومة قنديل، واصفاً إياها ب «الحكومة الفاشلة العاجزة التي يعني استمرارها تعريض مصر لمزيد من الفوضى والانهيار الاقتصادي». وقال في بيان إن «أحداث الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين في الخصوص في القليوبية وفي العباسية تعد فشلاً أمنياً متعمداً أو متهاوناً يستلزم الإقالة الفورية لوزير الداخلية الذي لم يعد مؤتمناً على حياة المصريين وأمنهم، خصوصاً مع تزامن ذلك مع الاعتداءات على المتظاهرين». واعتبر أن «تكرار الأحداث الطائفية بما يصاحبها من تهاون أمني بالغ يثير الكثير من علامات الاستفهام». وتساءل: «ألم يكن معروفاً للداخلية مسار جنازة ضحايا أحداث الخصوص؟ ألا تستدعي الأحداث الطائفية تأميناً شديداً للجنازة منعاً لاشتعال الأحداث مرة أخرى؟». في المقابل، قال المرشد العام لجماعة «الإخوان» محمد بديع إن «محاولات افتعال الأزمات الطائفية في البلاد واستدراج الشعب المصري إلى فتنة طائفية هي محاولات يائسة». ودعا الأجهزة الأمنية إلى «بسط سيطرتها وتوفير الأمن لدور العبادة والمنشآت العامة والخاصة»، مشدداً على أنه «يجب على جميع المخلصين منعها (الفتنة) بكل قوة». وأضاف أن «الاعتداءات التي تستهدف أمن واستقرار مصر ستبوء بالفشل ولا يمكن أن تصدر من شخص يعرف حقيقة دينه سواء كان مسلماً أو مسيحياً»، مؤكداً أن «النسيج الوطني المصري عصي على الاختراق مهما حاول اليائسون تحقيق ذلك... وحدتنا الوطنية أكبر من كل المؤامرات». ودان حزب «الحرية والعدالة» الحاكم، الذراع السياسية ل «الإخوان»، الأحداث التي رأى أنها «تطورت على نحو مثير للريبة». وقال في بيان إن «ما يحدث دليل على أن هناك من يريد إيقاع الفتنة بين أبناء الوطن من خلال اختلاق أحداث تستفز المشاعر الدينية وتؤدي إلى فتن طائفية تهدف إلى جر الوطن إلى فوضى يستفيد منها أعداء مصر وأعوانهم من الفاسدين». ودعا «الأزهر والكنيسة القبطية والقوى الوطنية إلى الأخذ بزمام المبادرة وتهدئة المواطنين وتوعيتهم بخطورة الانسياق وراء محاولات الاستفزاز»، كما طالب «المصريين مسلمين وأقباطاً بألا يستجيبوا لهذه الاستفزازات الممنهجة والالتزام بالقانون للحصول على الحقوق ولمحاسبة الجناة أياً كانت دياناتهم وأياً كانت انتماءاتهم». وأكد «رفضه القاطع وإدانته أي استخدام للعنف من أي طرف»، مطالباً الأجهزة الأمنية «بسرعة الكشف عن ملابسات الحادث وعن المخططات التي تستهدف إثارة الفتن الطائفية». وأعلن نواب أقباط في مجلس الشورى الذي يمتلك السلطة التشريعية موقتاً وآخرين من أحزاب معارضة، البدء في اعتصام مفتوح في بهو المجلس احتجاجاً على أحداث العنف. وعقد النواب المعتصمون مؤتمراً صحافياً نددوا خلاله بالأحداث، وأكدوا أنه «للمرة الأولى في تاريخ مصر تواجه الكاتدرائية بهذا العنف». وطالبوا بإقالة وزير الداخلية محملين الرئيس مسؤولية ما حدث من أزمات. واستنكر «المجلس القومي لحقوق الإنسان» شبه الرسمي الأحداث التي شهدتها مدينة الخصوص وما تبعها من تصاعد لأعمال العنف أمام الكاتدرائية. واعتبر المجلس الذي يهيمن عليه الإسلاميون الأحداث «غير مبررة ولا يوجد داع حقيقي لاشتعالها بهذا الشكل المخزي، إلا إذا كانت هناك أياد خبيثة تدخلت في المشهد وقامت بإشعاله لبث الفتنة وتوتير العلاقات الحميمة التي تجمع عنصري الأمة المصرية». ودانت السفارة الأميركية في القاهرة أحداث العنف، لكنها ثمنت في بيان وعد مرسي بإجراء تحقيق عادل يتسم بالشفافية في الأحداث. وأعربت عن تعازيها لأسر الضحايا، وشددت على أن «دور الدولة هو حماية جميع المواطنين بكل طوائفهم». وأشارت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون إلى أنها تابعت بقلق بالغ الاشتباكات التي وقعت بين المسلمين والمسيحيين، مؤكدة ضرورة تدخل قوات الأمن من أجل السيطرة على الوضع وإعادة الهدوء والنظام إلى البلاد.