(2/3 ) شعرية السرد.. سوريالية العناصر "الشكل"، تبعاً للنقد الحديث، مصطلح لا يعني الفضاء المكتوب فقط، بل يشمل الفضاء اللا مكتوب، أي يشمل البنية ككل من مبنى ومعنى، وهو يدل على النص كوحدة كبرى، ويبرز الشكل، متناغماً بعناصره، مكثفاً لإيحاءاته ومقصدياته، محيلاً نصه المكتوب على الحركية المنفتحة على الشرود والتأمل، لأننا، من الناحية الفنية الجمالية، نقرأ نصاً قصصياً، له أسلوبيته الخاصة، المهتمة ببلاغة اللغة، وشعريتها، وشعرية الحدث والمعنى والكلمة، أي، شعرية البنية ككل، التي تتخذ لكلماتها إيقاعاً خليلياً شعرياً، وأرى أن نصطلح على هذا النموذج مصطلحاً إبداعياً، أقترح أن يكون "القصيدة القصة"، وإيقاعاً دلالياً، وأصطلح عليه "القصة القصيدة"، بحيث تتداخل (في) هذه البنية و(معها)، "البنية ُ المدلولية"، وتتحول إلى "شخص افتراضي"، يبدو مثل "طيف"، لا يلمحه إلا المتتبع للأثر الناتج عن تركيبية البنية المتموجة بين الشخوص الرئيسة والمساعدة، والضمير السارد، الذي، غالباً، ما يكون "ضمير الراوي العالم بكل شيء"، وهذا هو السر المحوري لهذا العمل الإبداعي، الذي قد يستعصي ظاهراً، فينحجب، ولكنه لا يغيب، فهو الحاضر بين كثافة الجملة القصصية، واختزالها الحدثي، والدلالي، مقابل إيقاعها السردي، المتسارع، إضافة إلى ما تنجزه المتعة الناتجة عن صوتيات اللفظة وصمتياتها، وما يلعبه كل من الجناس والطباق، وتكمله التقاطعات الزمنية المجسدة بإيقاعات "الموقتات" الروحية والوجدانية، التي ترتكز ولا ترتكز على المكان في ذات الآن، كيف؟ هذه البنية الرجراجة تذكر المكان كعنصر، لكنها لا تجعله هدفاً، بل مساحة للحركة والفعل وردات الفعل، للحلم، والصمت، والمسكوت عنه، كما تتركه حيزاً يجذب ويطرد الوحدات السردية الصغرى التي تتناسل مثل خيوط العنكبوت لتشتبك في وحدتها الكبرى "النص القصصي"، الذي لا يعتمد على الحكي، بل على السرد الفني الجمالي، الذي يوظف "الوصف الخلاق"، و"التصوير المتحرك"، و"المشهدية السيناريوهاتية:، و"إيقاعات الشعرية"، و"فلسفة المعنى"، مبتكراً "تناسلاته الطبيعية"، مثل (النار/ الدخان/ الرماد)، و"تناسلاته اللا طبيعية"، التي تعتمد على "المفاجأة"، أو "كسر أفق التوقعات"، حيث يتم التحول خارج المتوقع من العنصر، مثلاً: النار وأطوارها، تتحول إلى عنصر لا حارق حين تلامس الوجه، وفي هذه التحولات المتغيرة، وثوابتها المحيرة، تكمن السرية الجمالية، التي نتلمسها في مجمل القصص، لكنني، في هذه الدراسة، سأقرأ قصة "موائد الجمر/ص123"، كمفصَّل أو "فصّ"، من هذا "المجمل"، وتلك "الفصوص": ترى، لماذا جاء العنوان :"موائد الجمر"؟ للجمر، أيضاً، موائده، التي تأكل كل شيء كما تُطعم كل شيء، ولهذا، لم تقتصر دلالة العنوان على إشارة واحدة، بل استشرت بالاشتعال، لتدل على المكان الطبيعي الجغرافي:"البيت"، الذي يحدث فيه الحريق، كما يحدث في البيوت الأخرى، ومن ثم، لتتوغل الإحالات المتتابعة كالنار في الأحداث، متحركة بين "الطين" و"الحياة"، و"الموت" كرموز تعطي الشرر للإيحاء، لتتفاعل مع عنصرها الأسيّ "النار"، التي تذكرنا بقراءة "باشلار" للنار، وثالثاُ، لتؤكد على إيقاع النار ومفرداتها تصاعدياً، وتنازلياً، من خلال "الرماد/ اللهب/ الدخان/ الحريق/ الاشتعال/ الأتون/ مسجور/ إلخ.."، وليس أخيراً، لتمزج كل ذلك مع بؤرة الاشتعال القصوى، اللا مرئية بالتأكيد، المحالة على اشتعالات الداخل الإنساني من خلال نقيضين: الخير الذي يشتعل بلا انطفاء، والذي تجسده شخصية "الشقيق"، والشر الذي يشتعل "الفاعل المجهول/ الكلب/ الشر والشرير"، ولا يقدر على إطفائه سوى الخير وذلك بعدما يصاب، هو الآخر، بنار أخرى. تبدأ القصة من جملة "مقلوب على وجهه في الطين"، وتتابع:"والدخان الأسود يتصاعد، طين مقلوب في طين، وطقوس الآلام أشعلت الحريق في البيت الأخير، فتجلى الدخان عن وجه لا يحترق، وشيء ما معقوف مربوط مسجور في أتون تفوح منه رائحة الزيت، ولا باب للرحمة يُفتح"، المشهد المزدحم بتلاحق الأفعال، وتواليات ما يتعلق بالنار، يزج القارئ في متاهة التنبؤات: من هو هذا المقلوب، وماذا يحدث، ولماذا؟ وأية آلام حارقة استطاعت أن تستمد من النار فعلها الكامن والظاهر؟ ومع متابعة القراءة، نتبين أن النسيج المشتعل، عبْر الجمل الموظفة في التقاط الحالة، بشعرية وسوريالية، أن السارد العالم بكل شيء، جعل لغته خادعة، إشارية، تحيل رمزية "الطين" إلى "الإنسان" المحال، بدوره، على مكونه الأول، ليكون أقرب إلى "الأرض"، وبذلك، يظهر الخيط الأول من "بيت العنكبوت"، متنامياً، بالتفاف ما، مع معطيات الاشتعال دالات ودلالات، من الناحية النفسية الجوانية "آلام الاشتعال"، ومن الناحية الموضوعية المكانية:البيت المشتعل + الطين المقلوب على وجهه، ووجهه الذي لا يحترق، فلا تفوح إلا "رائحة الزيت"، من هذا الحيز الذي انغلق على مشهديته، من خلال معاني انغلاق "باب الرحمة"، الذي لا يظل مغلقاً أمام إرادة الشخص الآخر، الذي سيظهر فجأة، ويحمل "الطين"، ويخرج من المكان والنار، إلى فسحة قريبة مما يتساقط في أثناء الاحتراق، وبعيداً عن الخطر الحتمي، يلي ذلك، سرد لمشهد يبوح بالشخصيتين: الشقيقان التوأم، لكن، لا تبدو نتيجة الحريق إلا في الحدث التسلسلي الثالث، بعد تسجية الجثمان، وظهور الأم، التي تحتضن أحدهما، ولا تلتفت إلى الآخر، الذي يذرف دمعة أشد ناراً من تلك النار التي التهمت البيت إلاّهما، فيترك المنقِذ الشخصيتين "الأم" و"الشقيق المحترق" الذي يشير إليه لعل الأم تنتبه، لكنه يمضي متسائلاً عن عدم اهتمام أمه به:"ابتعد ممسكاً بثياب الريح"، ويجسد هذا الابتعاد مسافة زمكانية منذرة، لأنها تعالقت مع "الريح"، المنقطعة مع هذا المشهد الذي توقف عندها، ليبدأ من "ارتجاج، والظلمة، والمطر، والرعود، وحدث سيحدث":"وارتجتْ أرضٌ، وأظلمتْ سماءٌ، وتعالت أسماء تدوّي في وجه الليلة الماطرة، واللحظة الآسرة"، ولا بد أن تستوقفنا الحساسية العالية للصياغة، والتركيب الجملي، وإيقاعاته، وما يبدو فيه من حركة واصفة، سريعة الحدوث، متلاحقة على صعيد "الفعل"، و"الصوت"، و"الصدى"، من خلال الاهتزاز كحركة وصوت في "ارتجت"، وظلمة ما سيحدث وانتظاره إلى أن يحدث في زمان قريب "الليل"، وذلك في "أظلمت"، بما فيها من احتمالات "الغيب"، وارتفاع الصوت واكتناهات المكتوب في "تعالت"، و"تدوي"، ومن ثم بصعوده، لكن بطريقة عكسية من الأعلى إلى الأسفل، عاكساً انخفاض الأصوات بغزارة: "الماطرة"، فاسحاً للعناصر أن ترجع إلى الشخصية العائدة، تلك التي أمسكت الريح:" وعاد إليه وناما في فراش واحد في بيت جدتهما، وقال له: إن أمي لا تكاد تشعر بوجودي"، هذه الشخصية، أراها مركّبة، لأنها ليست شخصية يقينية، بمعنى، أنها "انشطارية"، لأسباب كثيرة، منها: لأنها أحد الشقيقين التوأم، ولأنها الطيف الذي يتجلى كما أطياف المتصوفة، ولأنها شكاكة من ناحية، وتشككك القارئ من ناحية أخرى، بماهيتها الحقيقية، فهي خفيفة ولا مرئية، وقد تكون لطيفة من لطائف الروح، التي تتحدى "الظلام"، و"الظلم"، وهي تلك "الصورة" الباحثة في "الأعالي" عن الصفاء المشابه لها، وكأنها "الظل" و"الظليل" و"القرين"، وقد تترسب هذه الاحتمالات مجتمعة في شخصنة "الفطرة" أيضاً، فتنتصر بإرادتها، وقوتها، وهذا ما يتناسل من خلال النص والقادم ِ منه، حيث يكمل "الحوار" منطوق الشخصية، بهيئة ديالوغ أقرب إلى المونولوغ، يسرده الراوي العالم بكل شيء، من منظور المكاشفة، المبتعدة بالقائل عن "الطين"، و"الحمأ المسنون"، وكأنه في هذا الحوار، يذكرنا بمواقف "النفري" التي يبدأها بمقول القول:"قال لي"، لكن "المري" يكتب: قال له، فاتحاً تأويل ضمير الهاء على احتمالات متعددة للمخاطب الحاضر الغائب، الذي يحضر على أنه هو والآخر، في ذات الآن الإبداعي، مع ضرورة الأخذ بعين الإحالة والإسقاط إلى المكان الوامض "بيت الجدة"، وما فيه من تداخل رمزي مع الذاكرة الذاتية والذاكرة الموروثة، وانفتاحها على إسقاط القائل بدلالات الجملة "نافذة روحي":" وأفرد ما جمع، ورصه إلى بعضه وعرضه عليه، وقال له: أنا لا أجد نفسي إلا معك ومن خلالك، كأنك نافذة روحي"، وتؤكد هذه التوحدية الانشطارية للذات المنبثقة من الشخصية، ما تستعيده، بطريقة رجعية "فلاشباكية"، عن الماضي الطالع من الذاكرة ما بين الشقيقين، أو ما بين الذات وذاتها، تبعاً للنص اللا مكتوب، أو الفضاء الأبيض من القصة، فتعكس ما بين هذين الاثنين من قوة وضعف، خير وشر، ضوء وظلام، نهار وليل، وصراعات تتشابه مع الحريق والأرض المرتجة والسماء المظلمة والمضمَر الماطر، أو الممسك بالريح، حيث يمسك بالفراغ، أو اللا شيء، أو اللا موجود، رغم أنه موجود، ومجسد، كالماضي الذي يتراشقه البطل، وهو يستعيد كيف كان يدافع عن شقيقه، أو "ظليله" الضعيف، وكيف كان "لا يتورع عن عمل أي شيء في سبيل حماية أخيه مهما يكن ذلك الشيء فوق المألوف، وخلاف المتصوَّر؛ فقد عاد إلى شقيقه وأخبره بما سمع ورأى، ووجده يلعب مع أترابه لا يعبأ بشيء أو لشيء، بعد أن نسي الحادثة التي مر عليها شهر كامل، فقال له: إني وجدته"، وهنا، يعود السارد إلى تحيير القارئ حول الشخصيات، فمن يقول لمن؟ ومن وجد من؟ إلى أن تظهر مرة أخرى الشخصية العائدة إلى ضمير هاء الغائب، وتحضر من خلال "الكلب" الدال على الشر، فاعل الحريق، أو فاعل الظلم والسوء، لا فرق، طالما أن النتيجة الكامنة في اللعبة، وكلمتها السرية:"مُوت"! والتي لا تحتاج إلى فكّها سوى إلى "الوقت المناسب" أو "الحقيقة الصامتة، هي أن الوقت، وهو العابث بظلال المزولة، يخبئ أمراً لم يحن أوانه بعد"، ثم ينتقل النص إلى وصف آخر للشخصية التي سيتطابق ظلها مع ظل الوقت المناسب، لتكشف لنا عن نفسها، ذات المكانة الرفيعة، التي نستدل عليها من توصيف الذراع: "ولأنه اعتاد أخذ حقه بذراعه الصغيرة المترفة المغموسة في النعيم، والملفوفة في الحرير، التي، على رغم تنعمها وبياض أديمها، تخفي تحت ذلك الغطاء الرقيق قوة، وبأساً شديداً، عند من اعتاد، منذ نعومة أظفاره، أن العين بالعين"، ولا يأتي توظيف الذراع ليكشف فقط عن مكانها في النسق الاجتماعي، ولا عن حالتها النفسية، بل ليضاف إلى ذلك، القوة التي تخفيها، والتي لا تظهر إلا عند الضرورة، أي عند ضرورة إعلاء الحق، وأخذ الحقوق، طبعاً، من البادئ بالإيذاء، وهنا، يأتي دور "الذراع" لتكون الأداة، أو الكلمة السرية التي تفك لغز المتاهة، أو بيت العنكبوت، أو الشر، سمّه ما شئت، فتنتفض "موائد الجمر" في وجه من أشعلها، وتدور كلمة أو لعبة "موت" على من يستحقها، ويأتي الزمن المناسب مع ليلة رقيقة النسيم، هادئة، وكأنها تناقض ليلة الظلمة والارتجاج، موحية بمسافة زمنية ما بين الفعل الحارق، واسترداد الحق، بين شتاء وصخب، وربيع وهدوء، مؤكدة على فلسفة دلالية تتحرك بين "مد"، و"جزر"، وكأن المكان هو المحيط بأمواجه الروحية والمكانية، وهذا ما تثبته خاتمة القصة:" سيف المري وفي ليلة رق نسيمها، وطاب هواؤها، واكتمل بدرها، تسلل كنمر صغير في هدأة الليل، وأنهى الحكاية.. ومنذ تلك الليلة، ولسنوات تلتها، لم يقتل ذلك المجرم أحداً، ولم يسرق بيتاً". (3/3) قصص قصيرة جداً اختار المؤلف أن تنتمي قصص مجموعته إلى "القصيرة جداً"، وأظنه جازمة، فعل ذلك؛ لأن رؤياه اكتملت فيها تلك الكثافة على صعيد "المتن/ المعنى = الثيمة الموضوعية"، و"المبنى/الفنيات = الثيمة الجمالية"، فشاكل بين عناصر القصة القصيرة جداً، القائمة على "الاختزال الكثيف" لكل من الزمان، والمكان، والحدث، والشخوص، والمقدمة، والخاتمة، والحبكة، إضافة إلى اختزال الحجم، مع ضرورة "الإشراق التأملي"، كعنصر لا مرئي، يحتاج إلى فك شيفراته، ليضيء الأهداف القريبة والبعيدة للمبدع، وهنا، تحقق قصص المجموعة ما أسميه "الحالة البارقة"، وما اصطلحتُ عليه:"القصة القصيدة"، و"قصة القصيدة"، التي تحتاج لاكتشافها، إلى الغوص بعيداً، في البنية النصية العمقى، لتعود إلى "البنية السطحية"، مع الانتباه إلى "اللا مقول" كي لا يتسرب منك، فتظل في "المقول". وهذا ما سأقرأه في دراسة قادمة إن شاء الله، لأوضح، تطبيقياً، المصطلحات النقدية المتناغمة مع هذه المجموعة، وهي تبتكر أسلوبها القرائي.