في سياق مؤتمر متخصّص استضافته القاهرة أخيراً، بدت القارة الأفريقية منخرطة في عملية تدقيق دؤوبة، لبحث مدى التوافق بين البحوث التي تُجرى في دُوَلِها من جهة، والمعايير العلميّة المعتمدة عالمياً من الجهة الأخرى، إذ تداعى إلى المؤتمر جمع من قادة مؤسسات البحوث العلمية في الدول الأفريقية. وبإشراف «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، تباحث خبراء في طُرُق تقويم استراتيجيات البحث العلمي وآلياتها، عبر وثيقتين مرجعيتين تعتمدهما منظمة التعاون عالمياً، هما: «دليل فراسكاتي»عن منهجية جمع الإحصاءات عن البحوث والتطوير، و «دليل أوسلو: قياس النشاطات العلمية والتقنية-خطوط ارشادية مقترحة عن تجميع المعلومات في الابتكار وفهمهما»The Measurement of Scientific and Technological Activities, Proposed Guidelines for Collecting and Interpreting Technological Innovation Data. موارد وخطط «لابد من أن تتوافر أهداف واضحة لسياسات البحث العلمي». تلك كانت كلمات نيو مولوتجي، وهي باحثة في «مركز الابتكار» في جنوب إفريقيا، خلال عرضها تجربة بلدها في تطبيق المعايير التي أرساها دليلا «فرسكاتي» و «أوسلو» في تقويم استراتيجية العلوم والابتكار. وشدّدت مولوتجي على منحى الاستدامة في جمع البيانات من المؤسسات العلمية المختلفة في تجربة جنوب إفريقيا عن وضع تقويم مستقر لسياسات البحوث. ووفق ما أوضحت مولوتجي، تتمحوّر بحوث جنوب أفريقيا حول مجالات الزراعة والابتكارات والتكنولوجيا الحيوية وبحوث الطاقة، ما يؤكد ضرورة وضع أهداف واضحة للمؤسسات العلمية وأعمالها لتحميها من تضييع الوقت أيضاً. وشدّدت مولوتوجي على أهمية التعاون مع صانعي السياسات في هذه المؤسسات لوضع بيانات حقيقية عن المستوى العلمي والبحثي فيها. ورأت أيضاً أن تقويم سياسات البحوث في جنوب أفريقيا يواجه مشاكل عدّة، على رأسها صعوبة إجراء مسح شامل لمؤسسات البحوث، نظراً إلى قلة الموارد المادية اللازمة لجمع مؤشرات عن البحوث والتطوير، إضافة إلى صعوبة إيجاد بحّاثة مؤهلين لإجراء مسوح ميدانية للبيانات، وكذلك تفاوت الإحصاءات ودقّتها بين المؤسسات العلميّة المختلفة. وأوضحت مولوتجي أيضاً أن جنوب أفريقيا بدأت تدشين برنامج لضرائب البحوث والتطوير وتوزيع موارده على منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، في سبيل الإنفاق وزيادة الموارد المالية على البحث العلمي. وبذا يتمكن الاختصاصيون في جنوب إفريقيا، وفق مولوتجي، من إجراء بحوثهم العلمية من دون اضطرارهم إلى الاعتماد حصرياً على مصادر تمويل ذاتية، غالباً ما لا تكون كافيّة. في العام 2010، أطلقت منظمة «يونيسكو» شبكة علميّة هي «شبكة معلومات سياسة العلوم» Scientific Policy Information Network (اختصاراً «سبن» SPIN)، ثم تطوّرت الشبكة لتصبح «المرصد العالمي عن أدوات سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار»، Global Observatory of Science, Technology and Innovation Policy Instruments، فصار دارجاً أن يشار إليها بمصطلح مختصر هو «غوسبن» GOSPIN. وبدأ «غوسبن» أعماله بتجميع معلومات متخصّصة تأتيه من 33 دولة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وفق ما بيّن جوليرمو لومار شاند، رئيس قسم السياسات العلمية في ال «يونيسكو»: «نستعد لتوسيع أعمال هذ المرصد لتصل إلى بقية الدول النامية بحلول عام 2015»، أضاف جوليرمو، مبيّناً أن هذا المرصد يعتزم تغطية برنامج «غوسبن» لسياسات البحوث والابتكار في 130 دولة نامية. وبيّن أن «غوسبن» يهتمّ بتحليل مجموعة من المؤشرات المتّصلة بالاقتصاد والاجتماع والصناعة والعلوم والتكنولوجيا والابتكار والبنية التحتية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وغيرها، ما يؤدي إلى مراكمة قاعدة بيانات واسعة عن مُركّب العلوم والتكنولوجيا والابتكار Science, Technology & Innovation، الذي يشار إليه باسمه المختصر «ستي» STI. خريطة القرار «بواسطة «غوسبن» يمكن رسم خريطة لصانعي القرار عن وضع سياسات البحوث والابتكار عالمياً»، أوضح جوليرمو، مضيفاً أن البرنامج يستطيع أيضاً أن يعطي مؤشرات عن السياق القانوني لسياسات البحوث والابتكار في حال افتقادها، ويتيح فرصة للاستفادة من تشريعات دول مختلفة، في هذا المجال. في السياق عينه، أوضح الدكتور هشام عابدين، عضو المكتب الفني لوزارة الدولة المصرية للبحث العلمي، ان برنامج «غوسبن» يعطي أيضاً تقديرات عن الأموال اللازمة للبحوث والنشاطات العلميّة. «إستراتيجيتنا ينقصها التقويم»، قال عابدين، متحدثاً عن أهمية وضع معايير دولية لتقويم الاستراتيجيات الوطنيّة في البحث والابتكار، ومعرفة مدى صحة مسارها. وأضاف عابدين أن من الضروري تبادل الخبرات والمعلومات بين الخبراء في دول أفريقيا، عن المعايير العالمية المعتمدة في تقويم الإستراتيجيات والسياسات العلمية، وكذلك مدى توافقها مع خيارات التنمية وأولوياتها وحاجاتها. وفق ما أوضح عابدين أيضاً، بات ضرورياً تغيير أسلوب جمع البيانات، بعد نقاشات هذا المؤتمر. وكذلك أكّد ضرورة أن تتوافق طريقة جمع البيانات والمؤشرات القومية مع المقاييس العلمية، للوصول إلى تقويم فعلي عن أوضاع البحوث وسياساتها في مصر. ورأى عابدين أن هذه المؤشرات يجب أن تشمل عدد التخصّصات العلميّة ودرجاتها الأكاديمية، والنشر في المجلات العلمية الموثوقة، وتقويم موازنات البحوث وطُرق توزيعها، ومدى الحاجة اجتماعياً للمواضيع التي تتناولها البحوث، إضافة إلى مدى تلبيتها لأولويات صُنّاع القرار في مصر.