بعد نحو أربعةِ أشهر على احتجاجات سُنّة العراق في الرمادي والموصل ومدنٍ أخرى، تبدو الصورة أكثر تعقيداً والتباساً. إذ يخفق رئيس الحكومة في تبريد ساحات الاعتصام، وهي في المقابل ترفع سقف المطالب، ولا يبدو أنها تجد ترجمة فورية لحديث السلطة عن الاستجابة لها. كيف تعامل رئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، مع المحتجين على سياسته؟ الجواب عن هذا السؤال يخضع لمعادلة متضاربة بين محاولة زعيم ائتلاف «دولة القانون» كسب الوقت واستعمال ورقة «المطالب المشروعة دون غيرها»، وبين معارضيه الذين يتورطون على ما يبدو بفريق سياسي يخفق في تمثيلهم، وأن يكون نداً في مفاوضاته مع فريق المالكي السياسي. الطرفان في هذه المعادلة لديهما ما يكفي من الأسباب التي تؤخرهما عن الهدف. فالمالكي متهم بالعمل وفق نصائح تضع الاحتجاج امتداداً لمشروع «أجنبي»، بينما الاحتجاج يواجه ذاته، إلى جانب المالكي. إذ كيف له أن يتخلص من المتطرفين لديه، والذين يشاركون في إعادة إنتاج «حرب مناطقية بفرز طائفي». لكن كيف بدأت قصة التعامل الحكومي مع التظاهرات؟ اللجنة الخماسية في شكل عملي، هناك لجنة خماسية أعلن نوري المالكي اعتمادها في كانون الثاني (يناير) الماضي جهةً سياسية ذات طابع استشاري مهمتها التوصل إلى طريقة متوافق عليها لتلبية مطالب المتظاهرين. اللجنة ضمت حركة الوفاق بزعامة إياد علاوي، والتي يمثلها السياسي حسن شويرد، وحركة «الحل»، وهي جزء من الكتلة «العراقية»، ومثلها رئيس لجنة المصالحة البرلمانية قيس الشذر، وكتلة «التحالف الكردستاني» التي اختارت السياسي الكردي محسن السعدون، فيما كان أحد صقور «دولة القانون»، وهو خالد العطية، يمثل وجهة نظر المالكي في اللجنة، وحصل رئيس الحكومة على العضو الخامس وهو زعيم منظمة بدر ووزير النقل هادي العامري، المنشق عن المجلس الإسلامي الأعلى. ومنذ تشكيل اللجنة، عقدت اجتماعات دورية، وأجرت اتصالات مع أطراف في التظاهرات، وحققت، كما يقول أعضاء فيها، تنسيقاً دائماً مع اللجنة الوزارية الخاصة بتلبية مطالب المحتجين. هذه الأخيرة تحت رئاسة نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني، وقد تولت مهمة تنفيذ المطالب التي لا تحتاج إلى تشريعات، ولها صلة بصلاحيات الحكومة، وهي منذ شباط (فبراير) الماضي سمحت بالإفراج عن نحو 4000 من سجون وزارتي العدل والداخلية. ومبرر وجود لجنتين أمر تشكيلهما مرتبط بمطالب الاحتجاجات في العراق، هو أن اللجنة الخماسية معنية بصوغ توصيات لتعديل أو تشريع قوانين تضمن إصلاحات يطلبها المحتجون، فيما تتولى لجنة الشهرستاني إجراءات حكومية تراقب أو تضمن سرعة تنفيذها. وفي الوقت الذي شكلت فيه لجنة التوصيات كان البرلمان العراقي ينتظر منها أن تنجز عملها ليقوم النواب بالتشريع المطلوب، وكان الانتظار لوقت أطول من دون نتائج يرفع غضب المحتجين. كان للمالكي في كانون الثاني وشباط (فبراير) تصريحان مختلفان في التعبير، لكنهما يعكسان وجهة نظر واحدة لرئيس الوزراء حيال الاحتجاجات ضده. في الأول قال إن التظاهر ضده في الرمادي مثل فقاعة وتزول. وكان هذا كافياً لإشعار المحتجين بأن رئيس حكومتهم يقلل من شأن حراكهم. بعض المراقبين في العراق رأى أن هذا التصريح أعطى المحتجين دفعة قوية. أما في الثاني فقد أعلن فرزه الذي لا يزال يستعمله إلى اليوم بشأن المطالب التي صنفها بين مشروع وغير مشروع. ثم عاد وصنف المشروع منها إلى ما يخص الحكومة وصلاحياتها، وما هو من شأن البرلمان. ومن هذا التصنيف خرج نواب مقربون من المالكي بالحديث عن «ضرورة الاحتجاج على البرلمان لأنه يعرقل تشريع قوانين تضمن تحقيق مطالبهم». بمعنى آخر كان المالكي يريد بهذا التصنيف خلق احتجاجين، واحد ضد الحكومة، وهو يستجيب له بلجنة وزارية، وآخر ضد البرلمان وقد ساعده بلجنة خماسية تقدم له التوصيات. من الواضح أن المالكي ألقى بالكرة في ملعب البرلمان، ودعوة الاحتجاج على المؤسسة التشريعية كانت تستبطن رغبته في أن يكون الشارع الغاضب على النهج السياسي للمالكي غاضباً كذلك من أسامة النجيفي رئيس البرلمان والذي نشط كواحد من داعمي الاحتجاج في الموصل. التشريع بين الحكومة والبرلمان يقول حيدر الملا، وهو قيادي في جبهة الحوار التي يقودها صالح المطلك إن «اللجنة الخماسية اتفقت على حزمة توصيات تتضمن تعديلات كثيرة على قوانين تلبي الجزء الأكبر من مطالب المحتجين». هذا يعني أن اتفاق الأعضاء الخمسة سيضع توصياتهم على طريق سريع إلى البرلمان. لكن نائب رئيس اللجنة القانونية البرلمانية يؤكد ل «الحياة» أن لجنته «لم تتلق أي توصية بشأن تعديل قانون أو تشريع قانون جديد». ليس هذا وحسب، فرئاسة البرلمان «لم تتسلم هي الأخرى أي شيء من اللجنة الخماسية»، كما يقول الكناني الذي هو قيادي في كتلة الأحرار التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر. ما أنجزته اللجنة من توصيات كان مرتبطاً بقانون المساءلة والعدالة، وقانون العفو العام، وقوانين تحجز أملاك أعضاء حزب البعث، وتحقيق التوازن الاثني والقومي في المؤسسات الحكومية، العسكرية منها على وجه الخصوص. ويبدو أن رئيس الحكومة صاغ مناورة مع المحتجين، إذ لا يمكن لجنة غير رسمية، ولها طابع استشاري، أن ترسل توصيات الى البرلمان بشأن تشريع القوانين. ومن وجهة نظر المالكي، التي دافع عنها القضاء العراقي في أيار (مايو) 2012، فإن البرلمان العراقي لا يحق له تشريع القوانين، وله الحق، فقط، في اقتراح مسودات تشريعات يعرضها، أولاً، على الحكومة، وهي التي تملك حق صياغة القوانين، ووحدها توصي البرلمان بإقرارها. المالكي كتب رسالة صيف العام الماضي لرئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي مفادها أنه «في نظام الدولة ليس من حق مجلس النواب أن يشرع القوانين ابتداءً (...) هذا من صلاحية مجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية حصراً». ويعني هذا أن حديث المالكي عن ارتباط جزء من مطالب المحتجين في الرمادي بالبرلمان الذي قال إن عليه تشريع ما يلزم من القوانين، لم يكن منطقياً، هو في النهاية امتلك مسبقاً، حق التشريع. يقول القيادي في التيار الصدري، أمير الكناني، ل «الحياة» إن «الحكومة العراقية لو كانت تملك إرادة الإصلاح لسارعت إلى معالجة توصيات اللجنة الخماسية، وحولتها إلى مشاريع قوانين ترسلها إلى البرلمان للتصويت». التحالف الوطني، والذي يضم دولة القانون والتيار الصدري والمجلس الأعلى وحزب الفضيلة الإسلامي، قرر في اجتماع له مطلع آذار (مارس) أن تواصل الحكومة العراقية امتلاك حق التشريع، بخاصة ما يتعلق بتعديل قوانين المساءلة والعدالة والعفو العام والمادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب. لكن ما المضمون الذي جاءت به التوصيات؟ إنها على حد قول رئيس لجنة المصالحة في البرلمان «تمثل جزءاً مهماً من لائحة المطالب التي رفعها المتظاهرون في العراق». وقال قيس الشذر في اتصال هاتفي مع «الحياة» إن «من بين تلك التوصيات إلغاء المحكمة الجنائية المركزية والتي تتولى النظر بقضايا الإرهاب». ويتابع: «هذا مطلب مهم بالنسبة الى العراقية، وأعتقد أنه سيلقى قبولاً لدى الأطراف السياسية العراقية». ووفق معلومات من مصدر قضائي عراقي، فإن مقترح إلغاء المحكمة يعني تحويل قضايا الإرهاب إلى المحاكم المحلية في المحافظات. ويبدو أن طلب إلغاء المحكمة جاء إثر مخاوف من سيطرة جهة سياسية على تنفيذ عقوبات المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، ويتداول بشأنها حديث عن انتهاكات وخروق قانونية، الهدف منها جعل المادة المذكورة وسيلة للتصفية السياسية. اللجنة الخماسية ما زالت تعقد اجتماعاتها، وتناقش الأزمة السياسية ومطالب المحتجين لكنها تستغرق وقتاً طويلاً، بينما يشعر المحتجون باليأس من الحكومة، وفي هذا الوقت يتعرف الرأي العام على موقف المالكي من ساحات الاعتصام الغاضبة من نهجه السياسي. ما يراه المالكي في الاحتجاج المالكي ترأس في شباط الماضي المؤتمر الأول لقادة الفرق العسكرية، وقال فيه: «اضربوا بيد من حديد كل من يفرش سجادة حمراء أو ينثر الزهور بطريق من يريد التدخل بشؤوننا (...) فهؤلاء تجاوزوا مرحلة التآمر الى مرحلة الإخلال بالأمن والوقوف مع الإرهاب». والحال أن الدائرة السياسية المحيطة بالمالكي لديها قناعة راسخة بأن الاحتجاج مشروع لإسقاط الحكومة. وحديثه مع القادة العسكريين عن «التعامل الحازم» ربما يكون متسقاً مع محاولة اعتقال وزير المال رافع العيساوي بغارة جوية وبرية أقصى مدينة الرمادي. يقول قيادي في حزب الدعوة إن «الاحتجاج مدفوع بقوى خارجية (...) إنها مؤامرة، ولن نسمح بأن تحقق أهدافها في العراق». القيادي الذي يرفض ذكر اسمه، وهو مقرب من المالكي، يتابع في تصريحه إلى «الحياة» أن «قوى سلفية، وقيادات سياسية عراقية لها مصلحة في تغيير الوضع بأي طريقة، إلى جانب جيوب اتصال بدول خارجية، هي من تقف وراء الاحتجاج (...)، لهذا فإن المالكي لن يمنح فرصة الفوز لهم». الاستنتاج الأولي الآن هو أن المالكي أتقن خلال ثلاثة أشهر، تحديداً بعد هفوته بوصف الاحتجاج بالفقاعة، المناورة مع مطالب المحتجين. واشتغل على ثلاثة محاور، الأول استثمار الوضع المشتت والمنقسم للقائمة العراقية التي تقدم نفسها الممثل السياسي للمحتجين، ومن هذا الاشتغال تظهر أنباء عن تقارب بين صالح المطلك وجمال الكربولي من جهة وفريق المالكي من جهة أخرى. وفي الثاني كسب الوقت عبر تغيير اللهجة وإشغال الرأي العام، والمحتجين، بمهمة فرز المطالب ما بين مشروع وآخر غير مشروع. أما في الثالث فهو تعبئة الشارع المؤيد له ضد الاحتجاج بصفته مدعاة للنعرة الطائفية، ومع حدوث انقسام عراقي بشأن الاحتجاج بصفته سنياً يستهدف حكم الشيعة، روج المالكي لفكرة الحرب الأهلية الوشيكة في البلاد.