قبل سنتين غادر مصطفى الياسين وهو فنان سوري من حمص الاراضي الفنلندية بعدما اقام هناك أكثر من عشرين سنة. كما لو أنه اراد بهذه الخطوة ان يتشبه بإخوته وأخواته الذين نزحوا من حمص في اتجاه الشتات داخل سورية وخارجها. كانت بلاد ادفارد مونخ وجهته حيث استجاب لدعوة واحد من اكبر نحاتي النروج وهو صديقه من أجل أن تتاح له فرصة النحت في الهواء الطلق. وهو ما فعله لاحقاً حين عرض أحد أعماله النحتية في احدى ساحات المدينة. ولم تكن صدفة أن يختار الياسين الاقامة في البلدة ذاتها التي عاش فيها مونخ قبل نصف قرن. كانت بلاده بعيدة دائماً وهو الذي قرر أن ينفي نفسه في صرختها المريرة. أمن أجل أن تعيده صرخة مونخ إلى بلاده قرر النزوح إلى تلك البلاد الباردة؟ شيء ما غامض سيكشف عن جزء منه معرض مصطفى الياسين (1965) المقام حالياً في متحف سلكبورك في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن. وهو معرض يمزج بين النحت والرسم بأسلوب مفاهيمي تبدو المنحوتات من خلاله جزءاً ناتئاً من سطوح اللوحات، على رغم أن المسافة التي تفصل بين الأثنين لم تكن ضيقة، وهو ما فعله الياسين عن قصد مسبق، ذلك لأنه لم يشأ أن تكون المنحوتات مجرد أشياء مجسدة يمكن الحاقها بيسر باللوحات. لم يكن يفكر في اكمال ما بدأه رسماً بالنحت. كما المشاهد كان الرسام يجتاز الفراغ ليعبئه برؤى خيالية تنتهي إلى أن تتجسد على يدي النحات. وإذا ما كان الياسين في صورته نحاتاً قد لجأ إلى استعمال المواد الجاهزة، الكراسي بالتحديد، فإنه كان يرغب في أن يهب فكرته التجريدية عن عذابات اهله في سورية ابعادها الواقعية. رسَم تعبيرياً ونحَت واقعياً. في الحالين كان هناك سؤال حائر يدور حول ما إذا كان الواقع عاجزاً عن التعبير عن سريرته. لذلك لم تكن الكراسي المعلقة من السقف بطريقة مقلوبة سوى اشارة هامشية لما يمكن أن يقع في ظل ما تتعرض له الحواس السليمة من انتهاك مستمر. أعلينا أن نقلد الحرب في عاداتها لنفهم خلخلة الحواس؟ في الرسم يبدو الياسين كمن يهذي. خطوطه المبعثرة تسقط على القماش مكتظة بألم عصي على الوصف. وبسبب خبرة عينيه وخيال يديه يحضر الجمال هذه المرة متشنجاً، قابلاً للعصف والانفجار، متخلياً عن زينته، محتاطاً لزهد النازح بالأقل من صور السعادة المفقودة. في تلك الرسوم يمكننا أن نرى خرائط للألم السوري الذي لا يزال مقيماً في لحظة حلم واحدة يمثلها رمزياً سقوط الكرسي، كرسي الحكم ومَن يسعى إلى اعتلائه. كما لو أن الياسين أراد أن يصف الوضع العبثي الذي انتهت إليه الثورة السورية. العذاب اليومي للنازحين في مواجهة حلم صار مستهلكاً ولم يعد نافعاً. أكان عليه وهو المقيم في صرخة مونخ أن يصرخ مندداً بسوء الفهم الظالم أن هناك شيئاً ما يقع خطأ. هناك خطأ صار الشعب السوري يدفع ثمنه، موتاً ونزوحاً وتشريداً وضياعاً؟ لم يكن الميزان عادلاً. في معرضه الذي كانت سورية المعذبة حقل تجاربه الجمالية لم يشأ مصطفى الياسين أن يخون عقيدته الذاهبة إلى صفاء الإنسان، فلم يهتف ولم يستغرق في التحريض الدعائي. كان فناناً نقدياً تسكنه أدعية النازحين الذين هو واحد منهم وصراخ أطفالهم وتنهدات شيوخهم. حضرت ثورة شعبه مثل شبح مغدور. لم تخذله المعاني المتاحة غير أنه سعى إلى الارتقاء بها إلى مستوى الفن الذي يبقى بعد غياب موضوعاته. يحيلنا فن مصطفى الياسين إلى لحظة فراق بين اسطورتين: الجمال والسلطة. هذا فنان لا يفارق ينابيع الجمال الذي لن يكون سعيداً دائماً.