يتوضح الخط الفني التجريدي في شكل لافت في ملتقى «دمشق الدولي للنحت» الأول. وبهذا يكون الملتقى اختار بداية صعبة لتحقيق أهدافه، ومن بينها كما ورد في بيانه الصحافي «إثراء الثقافة البصرية وتنمية الذائقة البصرية» في سورية. صناديق حجرية مغلقة حولها نحاتون عالميون إلى أعمال تقارب لغزها الأول من دون فكه كلياً. وهي لا تزال «هجينة» عند بعض المارين أمامها أو صعبة على القراءة البصرية، على رغم أنها نحتت وفق أفكار أصحابها البسيطة مثل العربة الطفولية والموجة والبرغي. بينما بقيت غالبيتها كتساؤل معقد أو مبهم. محافظة دمشق أقامت الحدث، فيما نظمته مؤسسة «تكوين» بمشاركة 21 نحاتاً سورياً وعالمياً يمثلون 13 دولة من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية. واقتصرت المشاركة السورية على أسماء لأربعة نحاتين، من دون أي مشاركة عربية. وفي حين اختتم الملتقى الذي استمر شهراً، ستبقى المنحوتات قابعة على أرض معرض دمشق الدولي القديم مدة شهر آخر، قبل أن تنقل إلى أهم التقاطعات وأبرز ساحات مدينة دمشق وحدائقها. التجربة ليست الأولى من نوعها، فعمر ملتقيات من هذا النوع يزيد عن العشرين سنة. كان أهمها ملتقى «النحاتين الدولي» في مهرجان المحبة. اختير الحجر التدمري القاسي لتنفيذ 21 عملاً يحمل كل واحد منها رؤى نحاتين مختلفين في مدارسهم وخيارات التكوين البصري لديهم بين «تشخيص وتجريد وتعبير». أتت محافظة دمشق لأجل ذلك ب 800 طن من الحجر التدمري القاسي الذي يصنف على أنه الأفضل بين الخامات الطبيعية للنحت، ومن المقالع الحجرية نفسها التي شيّدت حضارة المدينة الأثرية. «خيمة الأطفال» جزء من الملتقى أشرف عليها خريجون من كلية الفنون الجميلة، أرشدوا الصغار الى بعض التقنيات الأساسية في النحت، وتطبيقها على مواد مثل الطين والحجر. كما ساعد النحاتين الدوليين 24 فناناً شاباً، سيكون بعضهم من ضمن المشاركين في ملتقى سوري مقبل تحت عنوان «حوار بين جيلين»، تقوم فكرته الأساسية على حوار بين نحاتين سوريين مبتدئين وآخرين محترفين، سيستفاد خلاله من الأحجار التدمرية الزائدة غير المنحوتة. ويرى النحات الياباني يوشين أغاتا (yoshin ogata) أن عمله المنجز في هذا الملتقى متضمن التشخيص والتجريد معاً، على اعتبار أنه «لا يخضع إلى مدرسة فنية معينة، غير آبه بالفروق بينها». «موجة الماء» هي موضوع أغاتا الذي يوليه الأهمية الكبرى، محاولاً أن «يصنع من الحجر القاسي مادة ملساء، بينما يضيف الغرانيت أو أحجاراً مشابهة إليه». لكن موجة أغاتا ليست كما هي عليه «الصورة البصرية التقليدية أو المتخيلة للموجة»، بل هي في شكلها المجازي المجرد. وفي المقابل يعتبر الفرنسي نيكولا فليسيغ (Nicolae Fleissig) عمله «بعيداً من التمايز بين أعمال الفنانين المشاركين، إذ إن فن النحت ليس كالجري في سباق الملعب». ويطرح فليسيغ في ما أنجزه نحتياً (قطعتان متداخلتان ومختلفتان في الشكل) تساؤلاً ملحّاً حول «كيفية تحاور القطعتين كعنصرين، ضمن كتلة العمل، أو أي منهما تحوي الأخرى بغض النظر عن صغر إحداهما وضخامة الأخرى؟». يجيب فليسيغ نفسه عن تساؤله قائلاً: «لا يمكن فصلهما فهما مرتبطتان معاً». ويطلعنا المسؤول عن الملتقى النحات السوري مصطفى علي وأحد المشاركين فيه، على اختلاف أسلوبه في «استقطاب النحاتين وتنظيم الملتقى بالتوازي مع اختلاف وجهة نظره النحتية»، مقارنة بتجارب مشابهة لنحاتين أو مهتمين سوريين في تنظيم ملتقيات للنحت بينها ملتقى «مشتى الحلو». ويقول علي: «التجربة في الملتقيات الدولية كانت أساسية في دعوتنا النحاتين من أنحاء العالم». ورد علي على انزواء البعض من النحاتين والفنانين السوريين عن التواجد ضمن الحركة الفنية السورية بأن: «من يحب أن يكون على الهامش فهذه مشكلته وحده»، مرجعاً سبب ضآلة سوق النحت في سورية مقارنة بالرسم إلى «قلة النحاتين في العالم، وصعوبة فنهم». وتابع: «أنتج الملتقى تعاوناً ومحبة وتبادل أفكار، وأخذ النحاتون العالميون فكرة عن حياتنا حتى عن سياستنا». «الأخوان الرمحين» أو لطفي وبطرس الرمحين هما من النحاتين السوريين المشاركين أيضاً، وفي حين يقيم كل واحد منهما بعيداً من الآخر (فرنسا، إيطاليا)، إلا أن «الكثيرين ما زالوا لا يميزون بين أعمالنا» كما يقول النحات بطرس. ويتابع: «إذا عدنا إلى الثلاثين عاماً الماضية يتضح التشابه الكبير في ما ننحت، لكن تباعد المسافة أدى إلى اختلافنا في الخط الآن». ويعترف بطرس بأن التناظر في عمله التعبيري «حوار»، هو جزء من هذه الثنائية الإنسانية أو مشخص لها. قطعتان متناظرتان من الحجر هو التكوين الأساسي لعمل بطرس: «هدفي الأساسي توضيح فكرتي عن الحوار من دون أي أبواب مغلقة، ودعمته بألواح زجاجية لتكون هنالك شفافية أكبر في العلاقة». ويبقى لأعمال الملتقى مكان من مدينة دمشق، سيعتاده ويألفه قاطنوها، ربما تجيبهم عن خواطرهم، أو تطرح عليهم سؤالاً آخر: «ما القصد من هذه المنحوتة؟».