قبل أربعة شهور كتبنا في هذا المكان بالذات «أن السوريين يأكلون الحصرم واللبنانيون يضرسون» (الحياة 15 أيلول/ سبتمبر 2012)، وها هي التوقعات تصبح وقائع. الحرب في سورية في ذكرى السنتين على اندلاعها، ووفود النازحين واللاجئين تزرع الحدود بشكل يومي ومتواصل، حيث لا توجد ارقام دقيقة لأعداد الهاربين من الجحيم السوري إلى «الفردوس اللبناني»، فإن بعض التقديرات يشير إلى ارتفاع العدد إلى أكثر من ثلاثمئة ألف مواطن، وهذا الرقم مرشح للارتفاع مع مرور كل يوم على ما تشهده سوريه. ويتوقع بعض المصادر أن يتجاوز الرقم المليون خلال الأشهر القليلة المقبلة، وهذا ما حتم ويحتم على لبنان الكثير من الأعباء الحياتية والأمنية والاجتماعية وغير ذلك. ويؤشر معدل النزوح إلى تزايد كبير في الآونة الأخيرة، خصوصاً أن الكثير من النازحين غير مسجل في الدوائر اللبنانية، وهذا ما يشكل همّاً للأمن اللبناني، فضلاً عن تقديم العون الإنساني لهؤلاء النازحين. ما هي أبرز المتغيرات في المشهد السوري بعد مرور سنتين على اندلاع الثورة؟ سجلت هذه الذكرى تطورين بارزين، الأول عسكري: استخدام الأسلحة الكيماوية في القتال الدائر، والثاني على الصعيد السياسي، وهو اختيار غسان هيتو رئيساً لحكومة سورية «في المنفى»، وهو من أصول كردية ويحمل الجنسية الأميركية. إن الإعلان عن دخول الأسلحة الكيماوية المعركة في الداخل السوري يشكل ولا شك تغيراً نوعياً في الصراع الدائر بين قوات الجيش السوري النظامي وبين كتائب «الجيش السوري الحر». وقد أحاط اللغط الكبير بدخول هذا النوع من الأسلحة المعركة وسط تبادل الاتهامات بين الجانبين، وإذا ما استطاع الجانب السوري (الرسمي) إثبات أن المعارضة هي التي تستخدم هذه الأسلحة، فهذا يمثل تحولاً نوعياً في مسار المواجهات من جهة، وعلى الصعيد الدولي في جانب آخر. ويذكرنا هذا الكلام بالعودة إلى سنوات قليلة خلت، مع اندلاع الحرب الأميركية على العراق لإسقاط صدام حسين ونظامه، وحينما قاد كل من واشنطن ولندن الحملات الإعلامية التي تحدثت عن امتلاك النظام العراقي أسلحة دمار شامل، وأن السلم في المنطقة يستوجب شل قدرة نظام صدام ومنعه من استخدام هذا النوع من الأسلحة، وانتهت الحرب والعراق يعاني ما يعاني من انقسامات وتقسيمات طائفية ومذهبية وعرقية هي كلها نتاج حرب تحرير العراق من «اسلحة الدمار الشامل»، كما الزعم بأن الحرب الاميركية-البريطانية على العراق هي التي حملت هذا النوع من الأسلحة المدمرة لوحدة العراق وللتعايش السلمي بين ابنائه، وسط عصف رياح الانفصال بين الأكراد في الشمال، الذين يتمتعون بهدوء واستقرار كاملين، وبين «الجنوب الشيعي» و «الوسط السني»، والمزيد من المنازلات بين السنة والشيعة ومواجهات متواصلة على مدى الشهور الماضية والآتية، والتي لن تتوقف قبل إسقاط رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي المتمسك بالنظام بقوة السلاح والنفوذ الإيراني. لكن التظاهرات والمواجهات في منطقة الأنبار والمتواصلة منذ بضعة شهور، يبدو أنها لن تهدأ قبل أن يحصل الثوار السُّنّة على نوع من الاستقلال الذاتي عن السلطة المركزية في بغداد. أما على الصعيد العسكري، فبرز اختلاف واضح في وجهات النظر بين الولاياتالمتحدة والحلفاء الأوروبيين حول طبيعة المساعدات التي يجب أن تقدم للمعارضة في سورية، وفيما تنصلت واشنطن على لسان الرئيس باراك اوباما من التورط المباشر، برزت أحداث أوروبية تمثلت بكل من باريس ولندن تطالب بتقديم المساعدات العسكرية للمعارضة السورية. وفي هذا السياق برز شعار جديد طرحه وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري، وهو الذي نادى بتقديم «المساعدات غير القاتلة» للمعارضة السورية، فيما يطالب أنصار هذه المعارضة بالحصول على «مساعدات قاتلة»، في سعي منها لتحقيق التفوق العسكري. ويبدو واضحاً أن بعض أطياف المعارضة السورية يوجه الانتقادات العنيفة للولايات المتحدة، من حيث «عدم تجاوبها مع مطالب الثوار والمقاتلين»، فيما لا تزال الولاياتالمتحدة تعاني ذيول خوضها الحرب في العراق، وهي خرجت منه ولن تعود، عسكرياً على الأقل، والمخاوف الجدية من أي تورط عسكري في سورية هو ما يتحكم بموقف الرئيس باراك أوباما الموجود حالياً في المنطقة وزار إسرائيل في الطليعة ثم السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله فالأردن. لكن التساؤل الذي يفرض نفسه هو: هل هناك «حروب قاتلة» و «حروب غير قاتلة»، على طراز المساعدات العسكرية القاتلة وغير القاتلة؟... وسؤال المرحلة هو: أين روسيا من كل ما يجري؟ هي لا تزال ثابته على مواقفها في دعم سورية وقيادة المبادرة نحو فرض تسوية ما، والتي تقضي -وفق موسكو- بالتحضير للفترة الانتقالية في سورية مع بقاء الرئيس بشار الأسد، فيما المعارضون السوريون الذي اجتمعوا في إسطنبول يطالبون بإقصاء الأسد عن أي دور، وهذه واحدة من أبرز العُقَد القابضة على الموقف. ويتابع وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف القيام بدور نشط في حل الأزمة، رافضاً إبعاد الأسد عن المراحل المستقبلية حتى العام المقبل 2014، حيث ستجرى الانتخابات الرئاسية والنيابية، وحيث يصر الرئيس السوري على الترشح لهذه الانتخابات وتقرر غالبيه الشعب السوري إلى من ستمنح الغالبية فيها؟ وبانتظار هذه التطورات وغيرها، تشهد الحدود اللبنانية-السورية العديد من التحركات والملاحقات والمواجهات، وهي تأتي كمؤشرات تحذير للبنان كي لا تُستغل حدوده في بعض المواضع من بعض العناصر المساندة للثوار، لذا شهدت العلاقات «الرسمية» اللبنانية والسورية بعض التصعيد، تمثّل بإطلاق بعض القذائف من الداخل السوري إلى مواقع حدودية في الداخل اللبناني. وفيما طلب الرئيس ميشال سليمان نقل الاحتجاج إلى الجانب السوري رداً على هذه التحركات المعادية، تريث وزير خارجية لبنان عدنان منصور لبعض الوقت كي يصدر عن دمشق البيان الذي ينفي قيام أي «اعتداء من سورية ضد الأراضي اللبنانية». وخلال جولته الأفريقية، قام الرئيس ميشال سليمان عبر بعض لقاءاته مع الجاليات اللبنانية (السنغال - شاطئ العاج - نيجيريا وغيرها) بالتعبير عن حالة من الرفض لأي عدوان سوري، فقال إن لبنان ليس على استعداد لأن «يدفع ثمن الديموقراطية لدى الآخرين». وواضحٌ إلى مَن يوجَّه هذا الكلام، وهو ما عكَّر العلاقات بين الرئيس سليمان وبين الاطراف الموالية للنظام في سورية. وتحدث هذه الخلافات فيما لبنان يغرق في العديد من الأزمات على غير صعيد وفي أكثر من اتجاه، ومنها مأزق «القانون الجديد» للانتخابات النيابية ومدى التوصل إلى قانون توافقي يخرج لبنان من المراوحة الخطرة التي يغوص فيها، خصوصاً وأن هذه التعقيدات مرشحة إلى مزيد من التصعيد كنتاج طبيعي لتضخم الأزمة في سورية. ويرى بعض المتابعين عن قرب لمسار هذه العلاقات، أن لبنان يبدو مقبلاً على مزيد من التعقيد، وأن الحرب ما إن تنتهى في سورية حتى تندلع في لبنان وغيره من دول الجوار، وبشكل خاص الأردن، الذي شن مليكه عبد الله الثاني حملة شعواء على «الإخوان المسلمين»، سواء في مصر أو سورية أو الأردن بالذات. وبعد... وفي ضوء كل ما تقدم، كيف تبدو صورة الأحداث حالياً في المنطقة؟ اولاً: كان واضحاً منذ اندلاع شرارة الأحداث في سورية، أن لبنان سيكون الدولة الأكثر معاناة من شر هذا النزاع، وهذا ما أكدته تطورات الشهور والأسابيع القليلة الماضية، مع اكتمال عملية الاستيراد والتصدير للأزمة السورية إلى الداخل اللبناني ووسط الانقسام الخطير القائم بين مختلف ألوان الطيف في لبنان، وما يشهده البلد من مخاطر نشوب بعض الفتن المذهبية والطائفية. ولذا لم يعد يكفي رفع شعار «النأي بالنفس» ليكون الوطن الصغير في مأمن من شرور ما يحيط به من أزمات وما يدبَّر له في الخفاء وفي العلن، فهذا الشعار لا قيمة فعلية له مقابل التدخلات والتداخلات من هنا وهناك. ثانياً: إن دخول عوامل جديدة على الصراع المشتعل في سورية، من شأنه أن يزيد في تأجيج حالات الاحتقان، لأن الورم الوطني بلغ مرحلة متقدمة جداً في سائر أنحاء الجسد اللبناني. ويقول الرئيس باراك اوباما، ومن وحي وجوده في المنطقة، إنه جاء ليتحدث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتحريك مساعي إنقاذ عملية السلام، فوجد نفسه أمام تبدل واضح في سلم الأولويات، حيث طغى «العامل السوري» على كل ما عداه من مصادر التوتر والأزمات في المنطقة. وحول «الوضع السوري»، يقول الرئيس باراك اوباما: «إن دخول الأسلحة الكيماوية في هذا الصراع من شأنه أن يغير قواعد اللعبة». وأصدر اوباما شهادة حسن سلوك بحق المعارضة السورية، نافياً عنها اللجوء إلى استخدام الأسلحة الكيماوية وحاصراً التهمة بالرئيس بشار الأسد ونظامه. أما على صعيد أزمة الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد كان من الطبيعي أن يؤكد اوباما على «أن التعاون الأمني بيننا وبين إسرائيل أبدي، وأننا ندرس توسيع المساعدات الأمنية لإسرائيل وتمديد الاتفاقات الأمنية لما بعد العام 2017». ثالثاً: أن التفاهم بين فصائل المعارضة –بل المعارضات- السورية ليس على ما يرام، بل تعصف به الخلافات، وفور إعلان اسم غسان هيتو كرئيس جديد ل «حكومة انتقالية» أو «حكومة في المنفى»، انسحب عدد من ممثلي بعض مكونات هذه المعارضة من اجتماعات إسطنبول. كذلك تبدو في الأفق بعض الخلافات العربية حول «تبني» أو «وضع اليد» على هذه المعارضة والتحكم بقراراتها، وكان واضحاً ما ذهب إليه رئيس الحكومة العراقيه نوري المالكي قائلاً: «إذا ما سقط حكم بشار الأسد في دمشق فسوف تنشب الحرب الأهلية في لبنان وفي الأردن». ويؤشر هذا الكلام إلى أن المالكي إما متورط في إعداد الخطة المقبلة لبعض دول المنطقة، أو أنه على علم بها، وفي الحالتين يجب التنبه لتصريحاته ولممارسته، لأن مواقفه تعكس في ما تعكس النفوذَ الإيراني في العراق وفي سائر دول المنطقة. رابعاً: هل من شبه بين حرب السنتين في سورية وبين حرب السنتين في لبنان؟ عندما كنا نتابع مسار الحرب الأهلية منذ اندلاعها في لبنان في الثالث عشر من نيسان (ابريل) 1975، ظهر لنا ولكل حريص على لبنان، أن الحرب قد انتهت أو ستنتهي بعد مرور سنتين على بدايتها، لكن الأحداث أكدت أن ما شهده لبنان بعد هذا التاريخ هو الأسوأ في تاريخ الحروب الأهلية. ومع الفوارق، فلا شيء يمنع أن تلقى «حرب السنتين» السورية المصير عينه، أي الانتقال بسورية من الوضع المعقد إلى الوضع الأكثر تعقيداً. وهناك اعتقاد سائد لدى فريق معين مرتبط بالصراع في سورية، أن بشار الأسد وأعوانه إذا ما شعروا أنهم يفقدون السلطة على كامل التراب السوري، فلا شيء يمنع من الاكتفاء ب «جَيْب معين» من وحدة طائفية معينة، وهذا هو الوجه الفعلي للتقسيم، الذي لن يقتصر على سورية فحسب. ...والتقسيم لن يصدر بقرار، بل هو تكريس لأمر واقع، ليس لأنه أفضل الحلول، بل لأنه الحل الوحيد الباقي! ورغم الصورة القاتمة الظاهرة على سطح الأحداث، فثمة اعتقاد معزز بالمعلومات: أن كلا الطرفين المتنازعين في سورية يستعدان لبدء... الحوار. وقد يكون الكشفُ عن دخول»الكيماوي» الصراع ومَن المسؤول عن استخدامه، ضربةً قاتلة للطرف الذي يثبت تورطه في الحرب. * إعلامي لبناني.