إنه أسير حال مرضيّة سرقت منه القُدرة على الحركة لكنها لم تستطع أن تسلبه إرادة الحياة وعبقرية الطبّ وإنسانيّة التواصل. إنه أيضاً نسخة لبنانية من العالِم البريطاني ستيفن هوكينغ، أحد أبرز علماء الفيزياء النووية في عصرنا. إنه طبيب الأطفال اللبناني جميل زغيب الذي أقعده الشلّل بعد أن كان طبيباً مرموقاً، لا يكل من الحركة. أصيب بمرض «التصلّب الجانبي الضموري» Amyotrophic Lateral Sclerosis (اختصاراً «إيه آل أس» ALS)، منذ عام 2008. و «إيه آل أس» مرضٌ نادر، غير معروف السبّب. يضرب المرض الممرات العصبية الممتدة من مراكز الحركة في الدماغ إلى نهاية الحبل الشوكي، وهي تسير على النواحي الجانبية الخارجية من هذا الحبل عبر فقرات العمود الفقري كلّه. ومن تلك الممرات، تخرج الأعصاب التي تُحرّك الجسم بأكمله. ومع الذواء التدريجي لهذه الممرات، تضمر هذه الأعصاب الحركية، بل تموت، ما يؤدي إلى شلّل ينتشر تدريجياً ليوقف الجسد نهائياً عن الحركة. وفي المقابل، ينجو بعض عضلات الوجه والجفون والعيون، لأنها تتغذى بأعصاب تأتيها من الدماغ مباشرة. على غرار هوكينغ، بل مصابي «إيه آل أس» جميعاً، أبلغ الأطباء زغيب أن أيامه باتت معدودة، وأن لا مفر من تهدّم جسده بأثر من زحف شلل لا يمكن إيقافه. تحدي الانهدام في البداية، أنهك المرض جسد زغيب. وتدريجياً، طاول الشلل يديه ثم رجليه ثم بقية جسده. لم تبق سوى عينين تجولان في حركة دائمة بحثاً عن الأمل. وعلى غرار هوكينغ أيضاً قرر زغيب النهوض إلى تحدي المرض وانهدام الجسد، بالاعتماد على قوة العقل ومضاء الإرادة. وشرع زغيب في التواصل مع الآخرين عبر شاشة كومبيوتر مزودة بجهاز اسمه «توبي أي تراكر» Tobii Eye Tracker، يتتبع حركة العين عبر حزم من الأشعة تحت الحمراء. ويعرض الكومبيوتر قائمة أسماء وحروف. وعندما تستقر حركة عين زغيب على أحدها، يعرف الكومبيوتر أن المريض اختارها، فيحفظها كما يُظهر معلومات عنها. وعلى رغم مشقّة هذه الطريقة، التي تشابه ما يفعله هوكينغ، استطاع زغيب أن يكتب ويتواصل مع مرضاه الذين لم يتوقفوا عن الثقة بطبيبهم اللامع. وبفضل هذه التقنية العلمية، تحدى زغيب المرض، حتى بعدما أثّر المرض على تنفّسه. ولم تحل كثرة الأجهزة الموصولة بجسد زغيب المشلول، دون تأليفه كتاباً بالفرنسية حمل عنوان «حياتي... قصّتي» Ma vie mon Histoire. وضمّن الكتاب سيرة حياته وصراعه مع المرض ورحلة العلاج التي جال بها دولاً عدّة، غير مغفل قناعته بدور العناية الإلهية في حياته. وبعدها، ألّف كتاباً آخر بالفرنسية عنوانه «نصائح عمليّة من أجل صحة الأطفال» Conseils Pratique Pour la Santé des Enfants. وضمّنَه إرشادات علميّة مُبسّطة عن طُرُق العناية السليمة بالصغار. ثم خطا إلى أبعد من الورق. وفتح صفحة استشارات طبيّة مجانيّة على موقع «فايسبوك». وحاضراً، يعكف زغيب على ترجمة كتابيه إلى العربية والإنكليزية، كما يزمع تأليف رواية جديدة يظهر فيها شغفه بالطبيعة والحياة القروية التي صبغت نشأته في حراجل (من قرى جبل لبنان)، وعلاقته الروحانية بالخالق التي اختبرها عبر تجربة شخصيّة. يتواصل زغيب مع أصدقائه وزملائه الأطباء عبر موقعي «فايسبوك» و «تويتر» وغيرهما. وعندما ضرب مرض «إيه آل أس» عضلات النطق عنده، عمد إلى استخدام جهاز «توبي كومينيكاتور» Tobii Communicator الذي يعمل أيضاً عبر تتبّع حركة العينين، لكنه يحوّل الكلمات والحروف التي تختارها عينا زغيب إلى صوت. وبذا، استطاع التواصل مع زملائه من الأطباء وتلامذة الطب عبر برنامج «سكايب» أيضاً، مؤكّداً لهم أن مرض «إيه آل أس» لا يؤثر في التفكير والذكاء ولا على الحواس الخمس والعضلات اللاإرادية للقلب والأمعاء والمثانة والوظائف الجنسية أيضاً. * صحافية تلفزيونية