اتفق «الأخوان» أن يرسلا أخاهما الأصغر إلى الوطن خوفاً عليه من الدمار، وحماية له من رائحة الموت التي تسكن كل شيء. تمكن أخوه الأكبر من أن يحدث له جرحاً قطعياً غير مميت حتى يعيدوه إلى الوطن، لكنه حين علم بذلك أثناء وجوده في المستشفى شعر بأسى بالغ، وخشي أن يعود إلى بلاده فيحتفلوا به كبطل حرب، هو المهزوم. هكذا، بدأ بطل رواية «تيو»، الصادرة حديثاً عن سلسلة الجوائز - الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، سرده ملحمة معقدة. الرواية لباتريشيا غريس، ترجمها إلى العربية مصطفى محمود وطاهر البربري، وتتحدث عن «الكتيبة 28 الماورية»، التي أتت من نيوزيلندا لتشارك في الحرب الدائرة في أوروبا. لكن، من أي نبع تغرف ذاكرة غريس تلك التفاصيل الحية والدقيقة عما يعانيه الرجال في حرب حولت مدن أوروبا إلى خرائب؟ اعتمدت الكاتبة النيوزيلندية على مفكرة والدها، الذي كان عضواً في تلك الكتيبة، حتى إن الرواية أصبحت رحلة بحث متعمقة في ذاكرة وذكريات الكثير ممن شهدوا هذه الحرب. حاولت معرفة كل ما يتعلق بهذه الكتيبة من المتطوعين، واستعانت بكل مصدر متاح من شهادات الأحياء من الجنود وشهادات عائلات المتوفين منهم، وكتب المؤرخين والباحثين والصحافيين الذين أرخوا عن فرقة المتطوعين الماورية. تبدأ الرواية من مصحة يقيم فيها تيو الذي يرسل مذكراته، إلى أبنائه ليتعرفوا إلى حقيقة والدهم الذي مات قبل أن يروه. ترك تيو المدرسة مخيباً آمال أسرته التى ضحت بالكثير ليصبح ذا شأن، لكنه قرر منذ رأى في طفولته مسيرة الجنود السائرين إلى الحرب، أن ينتمي إلى ذلك العالم حينما يكبر. أراد تيو دوماً، كونه الأخ الأصغر الذي يحاول الجميع حمايته ومراقبته، أن يخرج إلى العالم وأن يعيش المغامرة ويكون مصدراً لفخر بلاده، ويساهم في إنهاء الحرب. «بيتا»، الأخ الأكبر كان يتمنى أن تنتهي الحرب خوفاً على أخويه، خصوصاً الصغير تيو، وكان شخصية منطوية، شب قبل أوانه، ليقوم بدور الأب والراعي لأسرته، ويطلق عليه الجميع «الأب الصغير»، فالأب الفعلي عاد من الحرب كومة مترهلة، لا يظهر منه سوى رأسه المضمد، لا يشبه كثيراً صورة الجندي الضاحك المعلقة على أحد جدران المنزل. أما «رانجي»، فكان يشبه والده كثيراً قبل ذهابه إلى الحرب. كان ثرثاراً، كثير الضحك، وكثير المتاعب. شارك الأب قبلاً في الحرب، وعاد صامتاً وكئيباً، ومن ثم تحول بعدها إلى رجل مهووس وعنيف، تصيبه النوبات العصبية، فيكسر كل ما يقف في طريقه. على رغم أن الأب عاد حياً من ميدان الموت، إلا أنه ترك روحه وعقله هناك: «عودة أبيكم المسكين إلى البيت من الحرب لا تعني أنه لم يمت هناك». ظلت الأسرة البائسة تعاني من نوبات الجنون التي تتلبس الأب، ولم تتحرر إلا بعد أن مات، فقررت الرحيل إلى ولينغتون، بحثاً عن بداية جديدة. لكن، بمجرد وصول الأسرة الجريحة إلى ولينغتون يصمم الأبناء على الاشتراك في الحرب، ويعيدون تاريخ الأب المؤلم. يشترك الأبناء الثلاثة في تدريبات الحرب، يمضون أوقاتهم فى الغناء واللهو، ينامون فى برد قارس وتحت سيول الأمطار، فى انتظار دورهم للانضمام إلى المعركة. السرد بضمير الأنا على لسان تيو الصغير أعطى الرواية حميمية محببة، يكاد القارئ معها أن يتصور أن الكاتب رجل، لولا أن اسم باتريشيا غريس يطالعه منذ الغلاف، ليخبره كم بذلت من جهد لتصوغ تلك الملحمة. وسط ضجيج المدافع والرشاشات، وصرخات الرجال، وأصوات الطائرات تحوم فوقهم وتمطرهم بالقذائف من كل جهة، يحاول الإخوة الاحتماء بأي شيء، حتى لو كان عظام الموتى. رائحة الموت تخيم على مدن كانت يوماً رائعة الجمال وتحولت إلى أطلال، فيما أهله باتوا مشردين ينامون فى الخرائب والكهوف. كان «بيتا» يشعر بأنه رجل وحيد وتعيس، لم يعرف كيف يعيش الحياة، حتى حينما أحب «غيس»، فتاة محل الحلوى، كانت بالنسبة إليه بمثابة الحلم الذي يعرف أنه لن يتحقق حتى ولو أصبح العالم حراً. أحبته «غيس» أيضاً على رغم أنه لم يفصح لها أبداً عن مشاعره. أحبته على رغم أنها تعلم أنها لن تكون له، فهي ليست «ماورية»، ولا كاثوليكية كما تريد له عائلته. بعد حين تزوج «بيتا» بآني روز والتحق بالحرب، ومات هناك قبل أن يعلم أن زوجته تحمل في أحشائها جنيناً من صُلبه. «الشعور العميق بالحزن يشبه موتاً داخلياً يتجاوز الدموع»، هكذا شعر الأخوان إزاء فقد الأخ الأكبر. رانجى لم يعد الشخص المرح، انطفأ قلبه وتحول إلى حارس لتيو، ثم ما لبث أن مات، فيما الاحتفال بالنصر متوهج. أما تيو، فأصيب وهو في المصحة، بالتهاب كبدي بسبب جُرح لن يمكنه من الزواج، وبعد عودته، عكف على كتابة مذكراته ليتركها لابني أخويه، ليعرفا أنهما ليسا شقيقين. عاش العم تيو ليحكي لهما كل شيء، عله يستطيع أن يبعد عنهما ويلات الحرب إن جاءت. يتسم النصف الثاني من هذه الرواية بلغة شعرية رهيفة، أفادت من تقنيات السرد لتصور من طريق البوح والاعتراف ما يعانيه تيو، وهو يفتح صندوق الذكريات، في حين أن النصف الأول اتسم بلغة أقل شعرية، ولا أعرف هل هذا لأن الرواية ترجمها مترجمان، أم إن الكاتبة حين صورت حياة تيو في المستشفى كانت أكثر شاعرية وشجناً؟