دعوة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى جلوس المعارضة السورية والرئيس بشار الأسد إلى طاولة الحوار بغية تشكيل الحكومة الانتقالية تنفيذاً لإطار العمل الذي أقر في جنيف منتصف العام الماضي، أثارت موجة من التساؤلات والتفسيرات: لماذا لم تحاول واشنطن توفير ستة أشهر من الحرب إذا كان هذا هو موقفها من البداية؟ بل لماذا هذه الدعوة بعد سنتين من القتل والتدمير بينما لم تتوقف الإدارة السابقة للرئيس باراك أوباما عن مطالبة الأسد بالتنحي؟ هل انقلب كيري على موقف سلفه هيلاري كلينتون؟ وهل تجاهل موقف بريطانيا وفرنسا بعدما بدا طويلاً أن واشنطن أوكلت إلى لندن إدارة هذا الملف، خصوصاً أثناء انشغالها بالانتخابات الرئاسية؟ دعوة الوزير كيري صدمت أركان المعارضة السورية. وقد لا تكون النفوس هدأت بعد، على رغم توضيحات مسؤولين أميركيين أن واشنطن لم تبدل موقفها، وأن الهدف من الحوار الذي دعا إليه وزير الخارجية هو قيام الحكومة الانتقالية التي ستتولى الصلاحيات التنفيذية الكاملة تمهيداً لانتهاء نظام الأسد. وعلى رغم إعلان كل من باريس ولندن عزمهما على تسليح «الجيش السوري الحر»، سواء رفع الاتحاد الأوروبي قرار حظر السلاح أم ظل على موقفه المعارض لتوريد السلاح إلى خصوم النظام في دمشق. ربما هناك مبالغة في وصف الموقف الأميركي الجديد بأنه انقلاب جذري. وربما هناك مبالغة في اعتبار واشنطن رضخت أخيراً لشروط موسكو وتفسيرها لبيان جنيف الذي أقرته الدول الخمس الكبرى وبعض الدول العربية وتركيا في حزيران (يونيو) الماضي. الواقع لا يشي بذلك. ونظرة إلى التطورات الأخيرة تلقي الضوء على الخلفيات والظروف: موقف كيري جاء نتيجة لجولته على المنطقة ومحادثاته مع المعنيين مباشرة بالأزمة السورية من تركيا إلى دول الخليج. وقد شعر الوزير الأميركي، مثلما شعر بعض العرب، أثناء اجتماع المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية في القاهرة أخيراً، بأن ثمة سباقاً بين إعلان مثل هذا الموقف، وبين تصميم دول عربية على منح مقعد سورية في الجامعة لائتلاف المعارضة. بدا كأن ثمة سعياً من كل طرف إلى قطع الطريق على الطرف الآخر. صحيح أن المجلس رفض عودة سورية إلى المجلس وقرر منح مقعدها للمعارضة لكن التنفيذ بقي رهناً بتشكيل الائتلاف هيئة تنفيذية أو «الحكومة الموقتة» الموعودة. والواضح من دواعي هذا الشرط أن المجتمع الدولي، أو بالأحرى مجلس الأمن، قد لا يعترف بمثل هذه الخطوة ما لم يقم «جسم تنفيذي» يحظى بالحد الأدنى من الشرعية والاعتراف الدولي ليتسنى له شغل مقعد «الشرعية الحالية». الأمر الذي قد ينعكس أيضاً على مقررات الجامعة نفسها الملزمة والملتزمة بالقوانين الدولية، أياً كان الموقف من النظام السوري. ويلتقي هذا الموقف إلى حد ما مع موقف أطياف في المعارضة لا تزال تناهض فكرة قيام حكومة موقتة، ليس بسبب الخلاف على أسماء المرشحين لشغل رئاستها وبقية المناصب فحسب، بل لاعتقادها بأن مثل هذه الخطوة يقضي نهائياً على فكرة قيام حكومة انتقالية، استناداً إلى «خطة جنيف». أي يقضي على فكرة الحل السياسي الذي لا يزال المجتمع الدولي يصر عليه من أجل وقف الحرب والتمهيد لانتقال سلمي للسلطة ونشوء نظام جديد. فضلاً عن أن بعضهم لا يروق له أن يتحول «الائتلاف» إلى ما يشبه الجسم التشريعي فيما ينتقل القرار إلى أيدي الحكومة الموقتة. فتعود قوى المعارضة إلى المربع الأول، إلى ما قبل قيام «المجلس الوطني» ثم ما تلاه. من هنا، تخشى قوى في المعارضة تصدع الائتلاف إذا قيض لاجتماعات تركيا اليوم وغداً أن تثمر تشكيلة حكومية موقتة يستعجلها بعضهم لشغل كرسي سورية في القمة العربية الأسبوع المقبل في الدوحة. بل ربما أدى ذلك إلى استقالة الشيخ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الذي لا يزال يؤمن بوجوب إعطاء «خطة جنيف» فرصة، خصوصاً بعد قرار بريطانيا وفرنسا إمداد «الجيش الحر» بالأسلحة الكفيلة بتحقيق تغيير جوهري على الأرض يرغم الرئيس الأسد على تبديل موقفه. ولا يخفى أن قوى المعارضة هذه تلتقي مع موقف فرنسا وبريطانيا الذي لا يمكن اعتباره خروجاً عن موقف الولاياتالمتحدة، أو بعيداً من الظروف التي أملت على عمان تبديل موقفها، إذا صحت الأنباء عن تمرير الأردن أسلحة عبر الحدود أو تدريب مقاتلين من «الجيش الحر» بمساعدة أميركية. فالدول الأربع هذه باتت تدرك خطورة تنامي القوى المتطرفة على اختلاف تسمياتها، وبسط سيطرتها على كثير من المناطق. وتدرك أيضاً خطورة أن تحقق إيران «نصراً» بعدما ألقت بكل ثقلها في الحرب السورية، واستنفرت حلفاءها. ولم يعد سراً ما تقدمه طهران وحكومة نوري المالكي إلى دمشق من عتاد وسلاح، ومدى انخراط «حزب الله» ميدانياً في القتال وفي تدريب «ميليشيات» بالآلاف للدفاع عن النظام. بل بدأت تقارير تتحدث عن تمويل بغداد بعض صفقات السلاح الروسية! وإذا كان مثل هذه التقارير يعوزه الدقة لصعوبة تمرير حكومة «دولة القانون» قرارات كهذه في بلد لا يزال فيه حد أدنى من عمل المؤسسات، إلا أنه يكشف حدة الصراع المذهبي الذي لم تعد بغداد بمنأى عنه. رحبت واشنطن، بخلاف غالبية دول الاتحاد الأوروبي، بقرار باريس ولندن تسليح «الجيش الحر»، على رغم موقف كيري الأخير، وعلى رغم معارضة موسكو وتحذيراتها. ويعني هذا أن التسليح سيكون مدروساً ليفضي إلى ما ترمي إليه هذه العواصم التي لا تزال على موقفها العازف عن التدخل كما حدث في ليبيا، والتي لا تلتقي مع بعض الدول العربية المؤمنة بأن النظام السوري لا يمكن أن يقدم على أي تسوية. وأن التغيير المنشود لن يتحقق إلا بالقوة والإرغام. لا تزال هذه العواصم الثلاث تتوقع أن يؤدي تعديل ميزان القوى على الأرض إلى تثبيت أقدام «الجيش الحر»، وتعويضه ما فات أمام قوى التطرف، وتحويله نداً حقيقياً لقوات النظام وتعزيز قدرته على مواجهة الفوضى في مناطق سيطرته ودفع الناس إلى الالتفاف حوله. وقد يشجع ذلك بعض القوى الداعمة للنظام، خصوصاً العلويين الراغبين في ملاقاة الساعين إلى تسوية على طريقة «طائف اللبنانيين»، تحقن دماء الجميع وتحفظ لهم حقوقهم ونصيبهم في النظام المقبل. وتحافظ أيضاً على البقية الباقية من المؤسسات التي يمكنها بمساعدة عربية ودولية تجنيب سورية التفتت والتقسيم، أو «الصوملة» و «الأفغنة»... إذ يبدو من المستحيل في الظروف الحالية أن يقتنع العلويون بفكرة التسوية فيما أصوات المعارضين المتشددين تتوعدهم بالويل والثبور، وبعدما نجح النظام في ربط مصير الطائفة ومستقبلها ومصير بعض الأقليات بمستقبله ومصيره. الموقف الأميركي بين «ملاقاة» موسكو من جهة ودعم باريس ولندن من جهة أخرى، قد يوفر الفرصة الأخيرة لحل سياسي لا يبدو قريباً. ذلك أن قرار تسليح المعارضة سيدفع إيران وروسيا إلى تقديم مزيد من الدعم إلى نظام الأسد. الأمر الذي سيطلق سباق تسلح محموماً وسيرفع وتيرة المواجهات. أي أن دماء كثيرة ستراق قبل أن يدرك جميع المتصارعين أن أحداً لن يخرج من الحرب منتصراً. وقد تدرك الإدارة الأميركية وشريكتاها الأوروبيتان متأخرة استحالة إبرام تسوية مع نظام الأسد ما بقيت إيران بعيدة من صفقة مع الدول الكبرى تتناول ملفها النووي وقضايا أخرى تتعلق بدورها في الخليج وبلاد الشام. هل يجتاز الائتلاف في تركيا اليوم اختبار «الحكومة الموقتة» فيحافظ على ما بقي من وحدته أم يفاقم الخلافات ويطيح سلفاً ما يمكن أن يقدمه خيار تسليح «الجيش الحر» من أسباب القوة؟ وهل تنتهي القمة العربية في الدوحة إلى تغييرات في عمل الجامعة بما يوسع ساحة المواجهة في سورية وعليها؟ وأخيراً هل يتحقق الحل السياسي الذي يتمسك به الرئيس أوباما ووزير خارجيته قبل أن تنزلق المنطقة إلى حرب مذهبية واسعة تنتهي بتقاسم الجيران سورية قبل تقسيمها؟