لا أعلم إن كان شاعر «البعث» وشاعر الطفولة البعثية سليمان العيسى، يشاهد على الشاشات الفضائية صور الأطفال السوريين يسقطون تحت النيران «البعثية»، مضرّجين بدمائهم النقية وابتساماتهم التي تظلّ مرسومة على شفاههم. شاعر «البعث» الذي كتب الكثير من القصائد الطفولية، لا أدري إن كان قادراً على رؤية هذه المشاهد القاسية التي يتهاوى فيها الأطفال الذين تغنّى بهم، متفائلاً بمستقبل لهم، مشرق وجميل... أولى حزب «البعث» في سورية عالم الأطفال كبير اهتمام و»جيّش» لهم شعراء وروائيين وقاصين، فهم ذخيرة الحزب و»أشباله» المقبلون وجنوده لاحقاً... وقد علّمهم أدباء «البعث» أن الاستشهاد عمل بطولي إن كان في سبيل الحزب، وأنّ الملائكة في انتظارهم عندما يستشهدون... الآن يسقط الأطفال مثل السنابل الخضراء تحت ضربات مناجل «الشبيحة» وفي القصف الذي يدمّر الأحياء والمنازل. لا أدري ماذا سيكتب سليمان العيسى وسائر الشعراء والكتّاب البعثيين، المجنّدين لخدمة الأطفال والطفولة. ماذا سيكتب هؤلاء؟ هل سيجرؤون على تلوين قصائدهم بدماء الأطفال الأنقياء الذين لم يرحمهم حزب «البعث»؟ * * * منحت الشارقة الفنان السوري دريد لحام جائزتها الكبرى للإبداع المسرحي العربي في دورتها السادسة، «تكريماً لدوره الكبير في إثراء حركة المسرح العربي». يستحق دريد لحام مثل هذه الجائزة، فهو ممثل كبير، يملك جمهوراً عربياً غفيراً، واستطاع من خلال أعماله التلفزيونية أن يغزو المنازل العربية والسهرات والليالي... أما مسرحياً فهو لم يملك حضوراً بارزاً وارتبط اسمه بالشاعر الكبير محمد الماغوط، حتى بات من الصعب فصل الاسمين، واحدهما عن الآخر. وليت دائرة الشارقة ذكرت في براءة الجائزة، الدور الذي أداه الماغوط في صنع صورة دريد لحام المسرحية. فلولاه لسقط لحام في متاهة الأعمال التجارية التي وقع فيها لاحقاً بعد انفصاله عن الماغوط. لا يهمّ إن كان لحام يستحق هذه الجائزة المسرحية أم لا، لكنّ هذا التكريم بدا تكريماً للسلطة التي يملكها دريد لحام، الممثل «الملتزم» الذي عمل طويلاً في كواليس النظام وفي جهازه الرقابي. وبدت نافرة جداً ومستهجنة، مواقفه السافرة في تأييد حزب «البعث» والدفاع عنه في معركته الشرسة ضد المواطنين، المعارضين والمحتجين والمنادين بالحرية والخبز. ليت مانحي الجائزة أعلنوا منحها لدريد لحام عن أعماله القديمة، بل ليتهم منحوها ل «غوار الطوشي»، هذه الشخصية البديعة، التي أبدع لحام في أدائها ورسم ملامحها، بطرافة ومتانة، وكانت هي بمثابة المفتاح الذي دخل به قلوب جمهوره الكبير. إلا أن هذه الجائزة أعادت دريد لحام إلى الضوء، بعد عزلته التي يعيش فيها الآن، جراء الحملة التي قام بها ضده أهل الفن في سورية والعالم العربي، تبعاً لانحيازه إلى الجرائم التي يرتكبها حزب «البعث» ضد جمهوره تحديداً. * * * لم يكن يتهيأ لي أنني سأشاهد من جديد «الراجمات» البعثية، تطلق حممها عشوائياً على الشعب السوري مثلما كانت تطلقها على اللبنانيين والفلسطينيين في لبنان. كانت هذه «الراجمات» التي تُسمى «أرغن ستالين» لكونها روسية الصنع، تزرع الرعب في نهاراتنا وليالينا. إنها أشد قسوة من المدافع الأخرى وقذائف الدبابات والقصف العشوائي. وقد أمطرت لبنان بما لا يُحصى من الحمم أو الشهب النارية، الحارقة والمدمّرة. أذكر - كما يذكر الكثيرون من اللبنانيين - كيف كنا نرتعب عندما نسمع «طلقتها» كما يقال، ثم أزيز عبورها فوقنا ثم انفجارها. أصبح لهذه الراجمات في حياتنا آنذاك، أيام القصف البعثي، قاعدة نواجه من خلالها حممها. كنا ننتظر بصمت وخوف طلقتها التي تُسمع من بعيد، ثم نصغي إلى أزيزها في السماء، فإذا اجتازنا هذا الأزيز (كنا نسميه صفيراً) كنا نطمئن أنها لن تسقط علينا لأنها عبرت فوقنا. أما إذا لم نسمع الأزيز، فكنا نرتجف ونخفي أنفسنا مثل الفئران، تحت الأسرّة وفي الزوايا، داخل الملجأ الذي كنا نختبئ فيه، ليقيننا أنها ستسقط علينا. وكم من قذائف سقطت فوقنا وبالقرب منا، محدثة دماراً كبيراً... لكن ما كان يميّز «الراجمة» أو «أورغ ستالين»، هو الأزيز الموزّع كالموسيقي الذي كانت تحدثه عندما تطلق القذائف في وقت واحد: أربعون قذيفة تتطاير معاً في السماء ثم تسقط كل قذيفة في مكان... وأذكر جيداً كيف بلغت هذه الحمم أقصى غزارتها خلال حرب التحرير التي خاضها الجنرال ميشال عون عام 1989، وكلّما سمعناه في التلفزيون أو الراديو يتحدث عن قرب اقتلاع «مسمار» حافظ الأسد - كما كان يقول حرفياً - كانت تتساقط القذائف مثل زخات المطر، ناشرة الدمار والرعب في المناطق التي كانت تسمى «محررة». * * * ما أن انطلقت رابطة الكتّاب السوريين الأحرار حتى فتحت الباب على مصراعيه أمام الكتّاب العرب الذين يرغبون في الالتحاق بها. ولبّى عدد كبير من الكتّاب العرب هذا النداء، رغبة منهم أولاً في دعم هذه الرابطة التي أعلنت أول انقلاب على اتحاد الكتّاب الموسوم ببعثيته، ثم في الانتماء إلى حركة المعارضة التي يعتبرونها حركتهم، هم الذين يناضلون، ولو من بعيد، وبالكلمة، ضد النظام البعثي... تدفقت الأسماء بوفرة، من مصر وفلسطين ولبنان وسائر البلدان العربية. فالانتماء إلى الرابطة هذه، هو انتماء إلى عصر الحرية، الحرية التي صادرها اتحاد علي عقلة عرسان الذي تبوأ رئاسة الاتحاد البعثي طوال ربع قرن... أما الكتّاب اللبنانيون الذين أعلنوا انضمامهم إلى هذه الرابطة فإنما وجدوا فيها فرصة لمواجهة اتحاد الكتّاب اللبنانيين الذين سيطر عليه - وما زال - شبح علي عقلة عرسان، «البعثي» الهوية والطموح. * * * قرأتُ بشغف كتاب «مذاق البلح» للسينمائي السوري محمد ملص. يكتب ملص ما يشبه اليوميات، مستعيداً ذكريات الماضي الجميل، لا سيما ذاك الذي أمضاه في روسيا، برفقة الروائي المصري صنع الله إبراهيم، علاوة على نصوص كتبها في ظروف أخرى. يوميات جميلة، تكشف زوايا مجهولة من سيرة ملص وسيرة إبراهيم، وقد استخدم فيها صاحب «أحلام المدينة» عينه السينمائية، جاعلاً من اليوميات، مشاهد بديعة، طريفة ونزقة، وحافلة بالأفكار النافذة والملاحظات والهوامش. أعتقد أن محمد ملص الذي يعيش تفاصيل الثورة السورية، سيكتب لاحقاً يوميات أخرى، قد يكون عنوانها «مذاق الثورة». هذا الكتاب، على ما أظن، سيكون بديعاً بدوره، وإن مضمّخاً بالدم البريء.