في شهور مضت، كان مقدار السكر أيام الجُمع يزيد على الحد حيناً فيبدو المذاق حلواً لدرجة الغثيان، وفي أسابيع تلت، فاق الملح الحد المعقول، ما أدى إلى حرقان في المعدة ووجع في القلب، لكن أيام الجمع القليلة الماضية اختلط الملح بالسكر في غياب المكونات الرئيسة التي من شأنها عمل «طبخة» هنية تعجب الجميع، وهو التداخل الذي بلغ أوجه أمس، فخرج المشهد كالحاً باهتاً لا لون له أو طعماً. فقط رائحة. رائحة العوادم العالقة في أجواء القاهرة بفضل الرياح الخماسينية ودرجة الحرارة التي بلغت 38 درجة مئوية جعلتها أقرب ما تكون إلى 83 درجة تحت شمس طريق النصر عند نصب الجندي المجهول، حيث هتف «الهتيفة» بسقوط حكم المرشد وبحياة الشرطة وبعزة الجيش. عشرات الميكروفونات والمنصات ومئات المتظاهرين وآلاف الأوراق الداعية إلى الاحتشاد دعماً لنزول الجيش وملايين من ذرات التراب العالقة في هواء برمهات الساخن البارد المترب الممطر غير محدد المعالم. هتف من هتف، وزعق من زعق، وضربت الحرارة من ضربت بضربة شمس لم تضع حداً لهتاف: «ياعكاشة يا بطل صوتك بيحرر وطن» و «يا عكاشة دوس دوس وإحنا وراك من غير فلوس». لكن «الفلوس» كانت ضرورة حتمية في ميدان التحرير حيث حفنة من المتظاهرين والمتظاهرات في «جمعة الفرصة الأخيرة» التي لم تحدد نوعية الفرصة ومغبة عدم اقتناصها. الحفنة صلت الجمعة وهتفت ضد «الإخوان» ثم هللت للجيش وبجلت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وأحرقت صورة الرئيس الحالي محمد مرسي من دون أن تعرف أن هناك من التيار الإسلامي من نعتها ب «البلطجية والمأجورين وأطفال الشوارع والملاجئ». الملجأ الوحيد الذي لاح في أفق حرارة نهار أمس كان في المساجد وبيوت الله. وفي أحد بيوت الله، وتحديداً مسجد قطاع الأمن المركزي في الدراسة، قال الخطيب حيث صلى الرئيس إن «ولاية مصر تعادل الخلافة. اللهم إنا نعوذ بك من نقمة السلب بعد نعمة العطاء». ورغم نعمة العطاء التي سبّح المصلون حمداً عليها، إلا أن بعضهم أصابته الدهشة حين استمع أو نما إلى مسامعه ما قاله الرئيس لضباط وأفراد الأمن المركزي الذين صلى معهم فيما يختص ب «العبور الثالث» الذي لا يفهمه كثيرون. الرئيس قال: «لقد كان العبور الأول والشرطة جزء منه هو عبور أكتوبر 1973، وكان العبور الثاني والشرطة في القلب منه أيضًا هو 25 يناير 2011». وجود الشرطة في قلب ثورة يناير، ووصف الرئيس لها بأنها ساهمت في حماية الثورة والشعب، وأن «من حكمة الله أن يكون الثورة يوم عيد الشرطة» أثار كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب المعارضة وتكبيرات وتهليلات التيارات الإسلامية المؤيدة للرئيس. وازدادت سخونة الجو وتقلبه أمس في ظل تصاعد حدة الاستفهامات التي لم تخل من استنكارات وشابت جميعها السخرية، فخروج الرئيس أول من أمس جالساً في كلمة مسجلة موجهة إلى أهالي مدينة بورسعيد الغاضبة منذ ما يزيد على شهر ونصف ليبشرهم بأن قتلاهم حصلوا على لقب «شهداء» وأن الأحياء من أهل المدينة الصامدة «كَسّيبة» أدى إلى تظاهرات غاضبة في أنحاء المدينة أمس وصلت حدتها إلى درجة المطالبة بإعدامه وقادة جماعة «الإخوان المسلمين». ولأن كلاً يغني على ليلاه، والجماعات الدينية على داخلياتها ولجانها تغني، فإن الأجواء أمس لم تخل في خضم سخونتها الملتهبة من أحاديث «داخلية الجماعة الإسلامية» التي تمضي قدماً وبسرعة في طريق إنشاء لجانها الشعبية المعروفة من قبل غير الإسلاميين بالميليشيات. فقانون تأسيس اللجان جاهز، وخطة تقنين أوضاعها مبلورة، ولم يتبق سوى إعطائها إشارة البدء لتتحقق الأمنية الغالية التي طال انتظارها، فمن أعضاء مطاردين من قبل الأمن ومسجونين بحكم القضاء ومنبوذين بسبب الميول التكفيرية والاتجاهات الجهادية إلى مجموعات مسلحة تفرض سطوتها على البلاد والعباد وكل ما هو آت. وفي خضم كل هذا، وقفت لوحات إعلانية شاهقة شامخة غالية الثمن أعلى كوبري (جسر) 6 أكتوبر في قلب القاهرة تواجه الاتجاهين معلنة «معاً نبني مصر» الإخوانية، وهي الحملة التي تتبناها الذراع السياسية للجماعة «حزب الحرية والعدالة» لزراعة الأشجار الوارفة وعلاج الحيوانات المريضة وتزويد الأسر الفقيرة بالسلع التموينية وإصلاح صنابير المياه وتسليك بالوعات الحمامات وغيرها من الخدمات الجليلة الطيبة التي تقف في تضاد واضح وتناقض بيّن مع كل الحادث في مصر، بدءاً بأجواء برمهات ومروراً بعشوائية المعارضة، وانتهاء ب «داخلية» الجماعات الإسلامية. أما المواطن العادي فالتزم بيته في «جمعة الفرصة الأخيرة» بعيداً من منصة «عكاشة» وميدان فقد ظله وخطيب اختار نفاق الحاكم وشرطة حمت الشعب والثورة وجماعات طيبة تعالج المرضى وتشبع الجائع وأخرى تؤسس «داخلية» ملاكي، وذلك انتظاراً لبرنامج «البرنامج»، حيث باسم يوسف الساخر من هذا وذاك وتلك سخرية لاذعة مريرة اختلط فيها السكر والملح اختلاطاً أوجع البطون وأنهك العقول وآلم القلوب.