هي: «لا، أنا أكثر»! هو: «أبداً! أنا أكثر بكثير»! هي: «لا داعي للمبالغة! أعرف مشاعرك، لكني ما زلت متقدمة عليك»! هو: «خلاص! لا داعي للخلاف نحن نقف متساويين»! حديث ساخن مؤجج بالمشاعر مدجج بالتنافس جرى بين «أحمد» و «منى» على مرمى حجرين من ميدان التحرير. صحيح أن الأجواء حولهما لم تكن مناسبة لهذا الكم من الأحاسيس، فجدار «سيمون بوليفار» وراءهما، وفندق «سميراميس» المنهوب والمكسر أمامهما، وما تبقى من لافتات مطالبة بالإفراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن هنا والقصاص للشهداء هناك وإسقاط نظام الإخوان تتطايرها رياح شهر شباط (فبراير) شبه الخماسينية المحملة بالرمال وما تبقى من بقايا غاز مسيل للدموع، إلا أن حديث المشاعر والتنافس على أيهما «أكثر» استمر لولا أن اختلفا حول فكرة اختراق «ميدان التحرير» للوصول إلى غايتهما في شارع طلعت حرب. منى: «نمر من الميدان. وربنا يستر»! أحمد: «لا طبعاً، أنا وحدي ولو حدث لك مكروه لن أتمكن من حمايتك». منى: «خليها على الله سنخترق الميدان بسرعة، فالجماعة لم يأتوا بعد». أحمد: «مندوبو الجماعة موجودون في كل وقت. دعينا نمشي من الكورنيش». «أحمد» وشقيقته «منى» طالبان جامعيان من شباب الثورة «الأصليين» كانا في طريقهما من الجامعة إلى مكتبة في وسط القاهرة، وانخرطا في حديث ذي شجون عن أيهما أصبح ضحية النتائج غير المرجوة والآثار العكسية التي نجمت عن الثورة: البنت أم الولد؟ الفتاة أم الشاب؟ ولحسن الحظ أنهما لم يدعا الخلاف يفرق بينهما، واستمعا إلى صوت العقل، وأذعنا للمنطق، وسلما بالواقع المر، واعترفا بأن كلاً منهما يدفع ثمناً باهظاً لثورة أجهضت وسرقت من أصحابها واحتكرها آخرون. الآخرون هؤلاء سكنوا الميدان. يختلفون عمن كانوا فيه في كانون الثاني (يناير) 2011 يسيطرون عليه حالياً، وهي السيطرة التي أدت إلى خلاف في الرأي بين أحمد ومنى حول خطورة المرور من الميدان حيث البلطجية في الصينية، والباعة الجوالون على الأطراف، ومنفذو التحرش الممنهج ينتظرون صدور الأوامر لنهش الضحايا. وإذا كانت الضحايا المقصودة في هذا الصدد هي النساء والفتيات من الناشطات والحقوقيات والمتظاهرات، فإن الضحايا بوجه عام في مصر هم الشباب والفتيات من أبناء الطبقة المتوسطة من غير الإسلاميين. الاستقطاب الحاد الذي ضرب بعنف حتى نال من ركيزة الثورة الشبابية التي استوعبها الميدان قبل عامين من دون النظر في الانتماء الأيديولوجي والولاء الفكري أدى إلى وقوف شباب مصر في عام 2013 على جبهتين تواجه كل منهما الأخرى. جبهة يعتليها شباب اعتبروا أنفسهم الفائزين من دون سواهم فوزاً أتت به الصناديق، والأخرى يعتليها شباب وشابات لم ينظروا للصندوق باعتباره العامل الوحيد المحدد لمستقبل مصر بعد ثورة صنعوها، فوجدوا أنفسهم يقفون موقف الخاسر المنبوذ غير المسموح له بدخول الحلبة أصلاً. وبين الجبهتين ملايين من الشباب والفتيات ممن لا ينتمون إلى هذه الجبهة أو تلك، فلا هم من أبناء التيارات التي تعتبر نفسها الأفضل بسبب انتمائها للجماعة أو تعد نفسها الأعلى لأنها الأقرب إلى الله لمظهرها الديني السلفي، ولا هم شباب وشابات آمنوا بالحرية والعدالة والكرامة بغض النظر عن الانتماء العقائدي أو الولاء للجماعة. أولئك هم فئة من الشباب والفتيات الذين أزاحت الثورة عنهم غطاء العزلة والحجر، فأخرجتهم من العشوائيات وفكت أسرهم من أسفل الجسور وأطلقت سراحهم من كل سجون المحروسة، فاعتقدوا أن الثورة كأنما أتت لتحريرهم من سنوات الكبت والاحتجاز الاختياري بعيداً عن أعين الأمن المتربصة ونظرات الطبقات المتوسطة والعليا الكارهة، لتكون لهم اليد العليا. وإذا كانت اليد العليا في شوارع مصر باتت اليوم للطبقات العشوائية التي أنبتها النظام السابق، وتركها تكبر وتتوغل لكن بعيداً عن الأنظار حتى حان وقت انفجارها وخروجها إلى كل صوب وركن، فإن اليد العليا على المشهد السياسي ليست لأي من الشباب الواقفين على الجبهتين المتناحرتين، فلا هي لشباب الجماعات الدينية المشغولين حالياً بالزهو والفخر بالصندوق، ولا هي لشباب الثورة من أبناء الطبقة المتوسطة الذين حلموا بالحرية والكرامة. اليد العليا صارت حكراً على كهول وشيوخ الجماعات الدينية الذين يحسنون استخدام شباب جماعاتهم وقت الحاجة! حاجة أحمد ومنى لعبور الميدان الذي ينظران إليه بعيون دامعة كلما ذكر أو لاحت معالمه تتبخر في الهواء بمرور الأيام. فهما يعلمان علم اليقين أن الميدان يبقى رمزاً، ويعلمان كذلك أن ما يجري في الميدان من تقبيح منظم، وتشويه ممنهج لا يخرج عن إطار الجهود العاتية المبذولة من أجل ضربه في مقتل، ويعلمان أيضاً أن الميدان، وإن ضرب، لا يقتل، فالثورة لا تقتل. قد تجهض، وقد تسرق، وقد تركب، لكنها لا تموت! منى (بعد ما لاحظت حزناً على وجه أحمد وهما يدوران حول رأس الرجاء الصالح تجنباً للمرور من الميدان): «لا تحزن سيظل الميدان لنا». أحمد: «أعرف ذلك لكن المشكلات والعقبات التي ظهرت بعد الثورة كثيرة وكبيرة». منى: «المشكلات والعقبات التي أزالت عنها الثورة الغطاء كثيرة وكبيرة. وهذا يعني أن الثورة ليست إسقاط نظام والعودة إلى البيت، والثورة مستمرة، فالثورة عمل في العشوائيات، ومد يد التعليم والصحة والمسكن الآدمي والثقافة والعمل لشباب يعيشون أسفل الجسور وفي العشوائيات، والثورة تخل عن الأهداف الشخصية وتنازل عن الصراعات السلطوية، وهذا يعني أن الثورة والعواجيز «دو نوت ميكس»... لا يختلطان!