بعد صدور أكثر من رواية أميركية أو إسرائيلية عن المفاوضات السورية - الإسرائيلية في عقد التسعينات الماضي، صدرت أخيراً رواية سورية لهذه المفاوضات منذ بدء الإعداد لمؤتمر مدريد للسلام لدى قيام وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر بجولات مكوكية في المنطقة بداية التسعينات وانتهاء بآخر محاولة لإبرام اتفاق سلام خلال لقاء الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في جنيف في آذار (مارس) 2000. جاءت الرواية السورية في كتاب جديد لبثينة شعبان بعنوان «مفكرة دمشق: نظرة من داخل أوراق حافظ الأسد» (245 صفحة) عن دار «لين رينر» الإنكليزية، ذلك استناداً إلى ما عاينته الكاتبة في تجربتها كمترجمة للرئيس الأسد وعضو في الوفد التفاوضي السوري منذ اليوم الأول إلى الجولات التفاوضية الأخيرة في شيبردزتاون في ولاية فرجينيا الغربية في بداية 2000 وانتهاء بقمة جنيف. يضاف إلى ذلك، أن شعبان استندت إلى وثائق وزارة الخارجية السورية ومحاضر القصر الرئاسي التي تم فتحها للمرة الأولى. وكان معظم المسؤولين الأميركيين الذين تعاطوا مع ملف المفاوضات، قدموا روايتهم ونظرتهم لهذا الملف بآماله الكبيرة في منتصف التسعينات وإحباطاته و «فرصه الضائعة» لاحقاً، خصوصاً لدى انهيار قمة الأسد-كلينتون. إذ تطرق الرئيس كلينتون إلى المفاوضات السورية في كتابه «حياتي» الصادر في 2004، وكذلك فعلت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرات في كتابها «السيدة الوزيرة». غير أن مسؤول ملف المفاوضات الأميركي السابق دينس روس، أتى على المحادثات بين تل أبيب ودمشق بالتفصيل في كتابه «الفرص الضائعة» قبل نحو عشر سنوات، في حين انتظر «منافسه» مارتن انديك إلى فترة قريبة حين أصدر كتابه «أبرياء في الخارج: رواية شخصية لديبلوماسية السلام الأميركية». أما الإسرائيليون فكانوا سباقين في تقديم نظرتهم حتى عندما كانت المفاوضات جارية، كما فعل رئيس الوفد التفاوضي الأسبق السفير ايتامار رابينوفيتش. في وقت غير مناسب ربما لا يكون كتاب «مفكرة دمشق» محظوظاً بالمعنى الآني، كونه صدر في مرحلة ينشغل السوريون بهمّ أثقل يتعلق بمستقبل البقاء والعقد الاجتماعي السياسي-الاجتماعي الجديد، وكون عملية السلام باتت في الصف الخلفي من الأولويات الدولية، مع أنه يقدم خرقاً آخر في التقليد السياسي السوري، ذلك أنه يتناول تأريخاً ومعلومات عن التاريخ الراهن، الأمر الذي كان أقرب إلى المحظور السياسي في العقود الأربعة الماضية. إذ فيه خروج عن العرف في شأن ذي حساسية عالية لعلاقته بإسرائيل والمفاوضات. ليضاف، في منظور التاريخ الراهن، إلى مذكرات وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس ووزير الاقتصاد السابق محمد العمادي. حمل كتاب شعبان الكثير من الطروحات الجديدة، لعل أولها أنه ينفي وجود أي معلومة في محاضر الاجتماعات بين الأسد وبيكر، تتضمن «صفقة» مشاركة سورية في «عاصفة الصحراء» مقابل حصول دمشق على «ضوء أخضر» للقضاء على الجنرال ميشال عون الذي أعلن «حرب تحرير» ضد سورية في لبنان نهاية الثمانينات. ربما يقول قائل، إن «الصفقة» كانت بمثابة تفاهم شفوي لن يرد في محاضر رسمية، أو أن الأسد قرأ أنه يستطيع القيام بذلك في لحظة سياسية كانت واشنطن فيها بحاجة إلى توفير «شرعية عربية» لحرب الخليج. لكن الأكيد أن المقايضة تناولت المشاركة في «عاصفة الصحراء» مقابل إطلاق عملية سلام في مؤتمر مدريد 1991. ويروي الكتاب كيف أن بيكر عرض على الرئيس السوري «التدخل» في العراق بعد إضعاف الرئيس الراحل صدام حسين خلال انتفاضة عام 1991، غير أن الأسد رفض هذا العرض لأنه «لا يريد التدخل في الشؤون الداخلية» للعراق. وإلى روايته تفاصيل الاتفاق على انعقاد مؤتمر السلام في مدريد باعتبار أن المكان جاء بناء على «اقتراح» سوري، حيث عرضت أماكن مختلفة لعقد الاجتماع منها قصر العدل الدولي في لاهاي وإمارة موناكو، فان كتاب «مفكرة دمشق»، يشير إلى أن لقاء بين الأسد وبيكر في 23 نيسان (أبريل) 1991، استمر تسع ساعات بحضور وزير الخارجية وقتذاك فاروق الشرع (نائب الرئيس حالياً) والسفير الأميركي، من أصل أرمني سوري، ادوارد دجيرجيان. ومحضر هذا الاجتماع موجود في أرشيف قصر الرئاسة، ويضم 162 صفحة. للمرة الأولى، يظهر أن رسائل متبادلة بين الأسد والرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، تدل إلى أن الأخير فكر بإطلاق مفاوضات السلام نهاية الثمانينات. إذ إن الأسد نظر في هذا اللقاء إلى بيكر وأخرج رسالة من ريغان تعود لتاريخ 28 تموز (يوليو) 1988، ليقرأ أن سياسة إدارة ريغان، كانت «تطوير فرص السلام العربي - الإسرائيلي على جميع المسارات، وأن هذا لا يزال أولوية بالنسبة إلى أميركا لتنفيذ القرار 242 و338 بما في ذلك مبدأ «الأرض مقابل السلام» باعتبار ذلك «جوهر» 242. ولوح الأسد بالرسالة بيده لبيكر، قائلاً: «ما يقوله الرئيس الأميركي، هو سياسة أميركية». ويروي كتاب «مفكرة دمشق» باقي التفاصيل المتعلقة بتطور المفاوضات وانتقالها من «حوار الطرشان» زمن رئيس الحكومة الليكودي اسحق شامير إلى حين رغبة شمعون بيريز اتخاذ «قرارات تاريخية بحجم ديفيد غوريون» استناداً إلى «وديعة الجيب» المتضمنة الانسحاب الكامل من الجولان، بعدما تسلم بيريز الحكومة بعد اغتيال اسحق رابين نهاية 1995. غير أن بيريز غاص في «عناقيد الغضب» في بداية العام اللاحق. وتسلط شعبان الضوء على «ديبلوماسية الأم» التي ظهرت بين الأسد وكلينتون. إذ إن الصحافيين تجمعوا في القاعة بانتظار الرئيسين. ولدى تأخرهما، ساد اعتقاد أن خلافاً ظهر بينهما يتعلق بالموقف من الإرهاب - المقاومة أو اتفاق أوسلو 1993 أو وادي عربة بين إسرائيل والأردن. لكن الحقيقة كانت أن الأسد وكلينتون كانا يتحدثان عن فقدان كل منهما لأمه بفترتين متقاربتين وتشاركا هموم فقدان الأم حيث كانت والدة الرئيس السوري قد غابت قبل أشهر من القمة السورية - الأميركية كذلك الحال مع والدة كلينتون. ومن الأمور الجديدة الأخرى، أن الأسد استشار الوزير طلاس ورئيس الأركان حكمت شهابي (توفي منذ أيام في الولاياتالمتحدة) في شباط (فبراير) 1994، قبل إرسال رد الجانب السوري على اقتراح وزير الخارجية الأميركي الأسبق وارن كريستوفر ب «وديعة رابين»، بما يتضمن ضرورة «الانسحاب الكامل» من هضبة الجولان إلى خط 4 حزيران (يونيو) 1967. ويتضمن الكتاب بنوداً حرفية ل «تفاهم نيسان» والحنكة الديبلوماسية السورية في إدخال الفرنسيين إلى التفاهم والاعتراف بشرعية «المقاومة»، في إشارة إلى «حزب الله». قبل ذلك وفي سنوات التفاوض الأولى التي اقتربت منتصف التسعينات من عقد الاتفاق، لم يكن يظهر أن «حزب الله»، كان حاضراً في المفاوضات. إذ أنها كانت تتناول بنود اتفاقية السلام أو ما يعرف ب «ارجل الطاولة الأربع»: الانسحاب، ترتيبات الأمن، علاقات السلام، الجدول الزمني. في المقابل، فان بندي مصير «حزب الله» وعلاقات دمشق مع إيران كانا موجودين في قوة خلال المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين إسرائيل وسورية بوساطة تركية في عام 2008. ويظهر الكتاب خفة دم ممزوجة بحنكة سياسية لدى الأسد، بينها تعليقه على «حبس» مادلين أولبرايت بالخطأ في الحمام خلال المفاوضات، وعرضه أن يذهب إلى واشنطن ل «إنقاذ» كلينتون في الانتخابات و «عدم إحراج» الرئيس الأميركي بقضية مونيكا لوينسكي عام 1994. ويتناول «مفكرة دمشق» المفاوضات السرية التي قام بها رجل الأعمال اليهودي رونالد لاودر، باعتبار أنها المرة الأولى التي يتحدث الجانب السوري عن ذلك، مع أن مسؤولين أميركيين وخبراء كانوا تحدثوا عن هذه المفاوضات في عام 1998 وإلى أي حد وصلت خلال فترة تسلم بنيامين نتانياهو رئاسة الحكومة. ومن الأمور الأخرى، التي يكشفها الكتاب أن الجانب السوري ليس لديه المحضر الرسمي لقمة الأسد - كلينتون، ذلك أن الجانب الأميركي كان وعد بإرسال المحضر إلى دمشق، لكنه لم ينفذ ذلك. لذلك لجأت شعبان إلى ملاحظاتها الشخصية لكتابة الفصل الخاص بذلك في الكتاب.