فلنعترف... كنا نسينا السيدة هتشكوك منذ زمن طويل، نسيناها ظلماً وعدواناً كما اعتدنا ان نفعل دائماً مع زوجات العظماء... النساء اللواتي قيل في صددهن ان وراء كل رجل عظيم امرأة. وكذلك، وهذا اسوأ، لم نهتم حين اكتشفنا ان الموسوعات السينمائية تكاد تخلو من إسم السيدة آلما ريفيل بوصفها كاتبة للسيناريو. والأدهى من هذا وذاك ان السيدتين - مدام هتشكوك وآلما ريفيل - امرأة واحدة، كانت «وراء» سيد سينما التشويق طوال الجزء الأكبر من حياته ومساره السينمائي، والوصف ليس من عندنا، بل يرد على لسان انطوني هوبكنز الممثل البريطاني الكبير الذي لعب دور هتشكوك في فيلم يحمل عنوانه اسم المخرج الكبير، وهو يقوله تحديداً لزوجته آلما في المشهد قبل الأخير من الفيلم حين يعترف لها بعد النجاح الساحق الذي تحقق في الليلة الأولى لعرض فيلمه «سايكو»، بأنه كان دائماً مغرماً بها، فتفاجأ وتقول له: «لقد جعلتني أنتظر هذا الاعتراف طوال ثلاثين عاماً»، فيعلق قائلاً: «ألست أنا سيّد التشويق؟». العنصر الغائب هتشكوك سيد التشويق؟ بالتأكيد. ومع هذا، فإن الفيلم الذي نشير اليه هنا لا يحمل اي تشويق من اي نوع كان، وربما لأن كثراً يعرفون كل شيء عن حياة «هتش» بحيث لا يمكن فيلماً، مهما كان شأنه، ان يأتي بما يفاجئ، ولا سيما إن كان هذا الفيلم مأخوذاً من كتاب صدر قبل سنوات وقُرئ على نطاق واسع. ولنوضح منذ الآن ان الكتاب يتحدث تحديداً عن النساء اللواتي استخدمهن هتشكوك في بطولة افلامه وأولع بهن، وكنّ غالباً، كما نعرف، شقراوات اقرب الى البرود لعل ابرزهن غريس كيلي وكيم نوفاك وجانيت لي وربما ايضاً دوريس داي... من دون ان ننسى انغريد برغمان ثم بخاصة تيبي هدرن. واذا كانت جانيت لي هي الشخصية المحورية في فيلم «هتشكوك» بالنظر الى ان هذا الفيلم يحكي تحديداً حكاية تصوير وإنتاج هتشكوك فيلمه الأشهر «سايكو» الذي قامت لي بدور ماريون فيه، فإن تيبي هدرن هي الشخصية المحورية في الفيلم الثاني الذي نشير اليه هنا، مع انه فيلم تلفزيوني، وعنوانه «الفتاة». فالفتاة هنا هي بالتحديد هدرن التي قامت ببطولة فيلمين متتاليين من إخراج هتشكوك، هما «العصافير» و «مارني». بالنسبة الى القارئ، قد تبدو الأمور هنا مختلطة بعض الشيء، لذلك نوضح: خلال الفترة الأخيرة حُقق فيلمان عن هتشكوك، واحد للسينما هو «هتشكوك» وآخر للتلفزة من انتاج «اتش بي او» هو «الفتاة». وهذان الفيلمان تمكنا من المساهمة في اعادة المخرج السينمائي الكبير ألفريد هتشكوك الى واجهة الأحداث السينمائية عند نهاية عام كان استفتاء أُجري خلاله من جانب مجلة «سايت إند صاوند» البريطانية الشديدة الرصانة، قد اختار فيلمه «فرتيغو» بصفته الأول بين افضل مئة فيلم في تاريخ السينما، كما اختاره هو شخصياً بصفته اعظم المخرجين. ومن هنا اتى الفيلمان في وقتهما، غير ان اياً منهما لم يأت، كما كان متوقعاً، ليقدم سيرة للرجل، بل شاء كل منهما على طريقته ان يقدم فصلاً من فصول حياته ولا سيما من فصول علاقته بنجماته، ومن الصعب القول انهما لم ينجحا في ذلك. نزاهة ما... إذاً، من دون ان يكون اي منهما تحفة فنية تضاهي ابداع صاحب العلاقة، جاء كل منهما نزيهاً على طريقته، مع ترجيح للعمل السينمائي على نظيره المتلفز حتى وإن كان كثر رأوا تشابهاً بين العملين اللذين نهل اولهما، السينمائي، من كتاب ستيفن ريبيللو الذي اشرنا اليه، فيما نهل الثاني من كتاب لدونالد سبوتو الذي كان اشتهر بإصداره سيرة شديدة القسوة لهتشكوك كتبها قبل سنوات. ولعل التشابه الأساس بين العملين يكمن في الزاوية التي ارادا ان ينظرا منها، زاوية تعلق هتشكوك بنجمات افلامه. ومع هذا لا بد من ان نشير الى ان هذا الموضوع قد يبدو هامشياً في «هتشكوك» حيث ان الفيلم يفيدنا بأن جانيت لي التي اختارها لبطولة «سايكو» لم تكن محط «مطامعه» - بل ثمة ما يشير في الفيلم الى ان فيرا مايلز التي لعبت دور اختها، كانت هي محط آماله وأراد ذات مرة ان يصنع منها نجمة فرفضت!-. وعلى العكس من ذلك، كانت حال تيبي هدرن بالنسبة الى فيلميه التاليين اللذين يشكل تصويرهما، بعد «سايكو» مباشرة، الإطار العام لفيلم «الفتاة». فهو، وفق الفيلم، اولع حقاً بتيبي التي كان اصلاً مكتشفها وفرضها على المنتجين، ثم حاول ان يتقرب اليها فصدّته مراراً وتكراراً، ما ساهم لاحقاً في انهيار مسارها المهني إذ غضب منها. و «الفتاة» يروي على اية حال هذه الحكاية بقسوة وتفاصيل تبدو مخزية لتاريخ المخرج، لكن احداً لم ينبر حتى الآن ليكذبها... ولعل الحديث عن مشهد واحد في الفيلم وكيف وظّفه هتشكوك خلال التصوير للثأر من حسنائه المتمنعة، يكفي لتبيان هذا: انه مشهد العلية في فيلم «العصافير» حيث كان من المفترض ان تُهاجَم ميلاني (تيبي هدرن) من جانب طيور قاسية غازية مدمرة. وكان من المفترض في الحقيقة ان تكون الطيور آلية يمكن التحكم بها، لكن هتش أمر بأن يؤتى بطيور حقيقية من دون علم النجمة، وكانت الطيور من العنف بحيث أرعبت هذه الأخيرة حقاً... ولم يكن الأمر مجرد مزاح ثقيل. ولئن كان شيء من هذا القبيل يحدث في فيلم «هتشكوك» وتحديداً في مشهد قتل جانيت لي في الحمام، حيث للحظة يمسك المخرج نفسه بالخنجر الحقيقي ويبدأ بالطعن الغاضب به امام وجه النجمة العارية وجسدها في شكل مرعب، فإن من الواضح ان ثمة بين الحالين فارقاً شاسعاً: في «العصافير» واضح ان المخرج اراد ان يرعب نجمته، اما في تصوير «سايكو» فإنه إنما كان يعبّر عن رغبة في العنف والقتل لا تستهدف جانيت لي نفسها. مهما يكن من أمر، فإن الإنصاف يقتضي منا هنا ان نتوقف عن المماثلة بين الفيلمين لنشير الى ان «هتشكوك» هو بالأحرى فيلم عن السيدة هتشكوك بقدر ما هو فيلم عن هتش... انها المرأة هنا خلف الرجل العظيم. وهذا الرجل العظيم الذي لا يتورع عن الهيام ببطلاته، شقراء وراء شقراء وفيلماً بعد الآخر، من دون ان يكون متمتعاً بقدرات تؤهله للغوص ابعد، يشك هنا في هذا الفيلم بأن زوجته آلما على علاقة بصديق لهما تشتغل معه على كتابة سيناريو لن يرى النور في نهاية الأمر. اما بالنسبة الى آلما، فإن المسألة واحدة بواحدة حتى وإن كانت في الحقيقة لا تنوي خيانة زوجها العظيم. بل انها تقف معه خلال تصوير «سايكو» بكل جوارحها وتوافقه على رهن البيت ذي المسبح لتمويل الفيلم الذي كانت الأستديوات قد رفضت تمويله... وحين يمرض تتوجه الى البلاتوه لتقود العمل مكانه وحتى حين ينجح الفيلم في عرضه الأول ويتزاحم اهل المهنة والصحافيون من حول المخرج لتحيته تتراجع هي الى الخلف مشجعة إياه على التجاوب بكل لطف وإخلاص. ومن هنا، فإن الحكاية، فيما هو خارج حبكة الغيرة وتلصص هتشكوك و «مغامراته» النسائية، هي حكاية انتاج الفيلم وتصويره. هي فصل من تاريخ هوليوود حيث الصراع الأبدي بين الإبداع والمال... بين المنتجين والفنانين. وهو صراع يتزامن مع تلك الصراعات التي تدور داخل ذات المخرج نفسه وهو يشتغل على عمل له، ولا سيما عمل من طينة «سايكو» كان مرعباً للمنتجين في كونه يحمل جديداً هرطوقياً (البطلة تُقتل ذبحاً قبل ان يصل الفيلم الى منتصفه)، وللرقابة في كونه مقتبساً من كتاب يروي جرائم قاتل حقيقي مخبول كان قتله امه من اولى جرائمه، ولهتشكوك نفسه في كونه خاطب اعماق مشاعره ووعيه الباطني ورغباته الخفية (معبّراً عن ذلك في حوارات وهمية يجريها مع القاتل الحقيقي نفسه إد غين في مشاهد تليق حقاً بسيد الرعب)... كل هذا كان حقيقياً، ووُصف في الفيلم في شكل يكاد يكون كلاسيكياً. فإذا اضفنا الى هذا، ذلك الاشتغال العلني على الجزء الخفي من حياة هتشكوك العائلية وعلى دور المرأة – زوجته آلما – في حياته، سنجدنا في نهاية الأمر امام فيلم يُضاف بقوة الى تلك السلسلة المدهشة من الأفلام التي تملك هوليوود سرّها: الأفلام التي تتحدث عن هوليوود نفسها، عن الأستديوات، عن تاريخ الأفلام وتواريخ صانعي هذه الأفلام. ونعرف عادة ان هذه الأفلام محببة الى الجمهور العريض، لأنها تعد دائماً بكشف ما هو وراء الشاشة حتى وإن كان هذا الكشف يتم بأشكال كلاسيكية لا تمتّ الى اساليب كبار المبدعين – ومنهم، بل على رأسهم، ألفريد هتشكوك – بصلة... وفي حال الفيلمين الذين نتحدث عنهما هنا، ينطبق هذا الكلام بوفرة، مع اشارة الى ان المخرجَيْن وُفّقا الى حد مدهش في «الكاستنغ» حيث ابدع انطوني هوبكنز من ناحية وتوبي جونز من ناحية ثانية في لعب دور المخرج الكبير، كل منهما في واحد من الفيلمين، تماماً كما ابدعت هيلين ميرن في دور آلما في «هتشكوك» تقابلها ايميلدا ستاونتون في الدور نفسه في «الفتاة»، من دون التقليل من شأن قيام الرائعة سكارلت جوهانسون بدور جانيت لي في «سايكو» او من شأن سيينا ميلر إذ لعبت دور الباردة تيبي هدرن في «الفتاة». اما الإشارة الأخيرة هنا والتي قد تكون عادلة في حق ساشا جرفاسي مخرج «هتشكوك» ففحواها انه، على رغم كل شيء، تمكن من انجاز مأثرة نادرة ولو بمجرد تصويره الفيلم المتحدث عن تصوير «سايكو» من دون ان يتمكن من استخدام اي مشهد او ديكور او جملة موسيقية تعود الى الفيلم الحقيقي... لأسباب قضائية!