طفت في الآونة الأخيرة بضع كلمات على لغة السياسيين السوريين ومراكز الأبحاث المعنيّة أو المهتمة بالشأن السوري. هي كلمات مفعمة بالإيحاءات، منها «مهمّات اليوم التالي»، «شروط التفاوض»، «أولويات الحوار». ولعل أكثر تعبير نال قسطاً من الحديث هو «المرحلة الانتقالية»، باعتباره جامعاً جزئياً أو كلياً لهذه العبارات الموحية، وملتَبساً بما يكفي لنشوب خلاف بين حلفاء، أو لتعاضد أيدي متخاصمين. توحي عبارة مرحلة انتقالية، في ما توحيه، أنها فترة تلي حدوث نقلة كبرى، حدث جلل، يمثّل المعلم الأساس لانتهاء المرحلة الراهنة. نقلة تجري بين عشيّة وضحاها، وتختلف تصوّراتها بين قوى الثورة والمعارضة، بل وبين رفاق الخندق الواحد في الفصيل السياسي أو العسكري الواحد. غير أنها تتخيل الصورة ذاتها: ثمّة عتمةٌ في المرحلة المستعصية المؤلمة الحالية، وثمة ضوء سيبزغ بعد هذه العتمة، يبشّر بانفراج، لكنّه ينتظر هذه النقلة الكبرى، هذا الحدث الجلل. تضمر هذه النظرة تمنّياتٍ ما زالت تستقيها من ثورات الربيع العربي الأخرى. هروب زين العابدين بن علي. تنحّي حسني مبارك. فرار معمّر القذافي قبيل مقتله. خلع علي عبد الله صالح بعيد حرقه. وتتخيل سيناريواً سريعاً- بات مستحيلاً بأية حال- لخلع النظام وإطاحة رأسه، وبدء مرحلة جديدة. تمنيّات وتصوّرات زاهية لكنّها لا تتلمّس الخصوصية الفريدة التي تتمتّع بها الثورة السوريّة. تتمثّل خصوصيّة الثورة السورية في أنها أصابت النظام بمقتل منذ اليوم الأول لانطلاقتها الصارخة في درعا، وأجهزت عليه في حدثين بارزين: اعتصام الساعة في حمص، وحشود ساحة العاصي المشهودة في حماة. والمقصود في مقتل النظام هو سرعة نزع أقنعته. الذي تمثّل في انسلاخ الطغمة الحاكمة في البلاد عن كونها سلطة تدير دولة يتعيّن المحافظة عليها، وتحوّلُها الفوريّ الوقح إلى مجرّد تلك العصابة التي تمسك بتلابيب السوريين اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، والتي أرادت أن تلقّن المجتمع السوري بأكمله درساً آخر يشبه درس حماة الثمانينات. ينبغي الانطلاق من هذه الخصوصية بالذات، لكي ندرك ما تعنيه حقاً عبارة «المرحلة الانتقالية» إلى سوريّة الجديدة، خصوصاً بعد مضي سنتين كاملتين من الحرب التي يشنّها النظام، غير آبه بأية معايير وطنية أو عالمية أو إنسانية، على شعبه الذي عزم على إسقاطه مهما كلّف ثمن هذا الحلم العزيز. في الواقع، يتعيّن لنا أن نعي اليوم أن المرحلة الانتقالية نحو سوريّة الجديدة بدأت في تلك الأيام من آذار (مارس) 2011، حين انطلقت شرارات الاحتجاج في مدن وبلدات سوريّة، وكسرت في الاستبداد هيبته، باعتبارها سلاحه الأهم، وقلعته الكبرى الأولى التي حافظت عليه أكثر من أربعين عاماً. ومن دون أن نقع في فخّ التقسيم المدرسي، فإن هذه المرحلة الانتقالية تجزّأت إلى حلقات. بدأت أولاها سلميّةً مع أطفال درعا واستمرت كذلك إلى حين اضطر السوريون في حلقتها الثانية إلى حمل السلاح دفاعاً عن أرواحهم التي يحصدها النظام لمجرّد التظاهر أو الاحتجاج أو ممارسة نشاط سياسي معارض «مخلّ بالأنظمة». لتبدأ بعدها الحلقة الثالثة من المرحلة الانتقالية، حين بدأت تظهر تشكيلات الجيش الحر، وبدأت تتحرر أحياء وبلدات ومدن من سلطة النظام. تكمن خطورة الحديث عن «مرحلة انتقالية» مرتقبة، ستأتي غداة حدث معيّن، في مسألتين. تتمثّل أولاهما في تأجيل أو «تبريد» استحقاقات ينبغي أن تتصدى لها قوى الثورة والمعارضة، وفي مقدمها حالياً الائتلاف الوطني. استحقاقات ملحّة على أكثر من جبهة، منها على سبيل المثال: إدارة المناطق المحررة أو الخارجة عن سلطة النظام. إدارة العلاقة بين القوى المسلّحة على الأرض، وعلاقتها بقوى المجتمع المدني. وضع السوريين على مختلف أماكن إقامتهم، في صورة الاحتمالات الواردة بشأنهم، وبشأن سوريّة عموماً. فضلاً عن استحقاق آخر تتزايد أهميته بسرعة كبيرة، ألا وهو إدارة علاقات اللاجئين السوريين بالدول والمجتمعات المضيفة، لكي لا يتحوّل هذا اللجوء إلى عبء يفوق قدرات هذه الدول والمجتمعات. يختبئ التقاعس أحياناً وراء الحديث عن مرحلة انتقالية ستأتي. فالواقع، أن ما نعيشه هو حلقات في المرحلة الانتقالية التي يتعيّن فيها على جميع السوريين استنفار قدراتهم وطاقاتهم لإنجازها واستكمال مهماتها بأسرع وقت، مهما تشابكت هذه المهمّات وتعقّدت. يجب أن يتحول مستوى إدراكُ أننا فعلاً في خضمّ المرحلة الانتقالية إلى وعيٍ عام واضح من دون لبس. ف «مهمات اليوم التالي» بدأت عملياً منذ سنتين، ولكلٍّ دوره. وتتوافر أمثلة جدية لمناطق استطاعت أن تقطع شوطاً فيها، إذ أدركت عن وعيٍ أنها بدأت مشوار التوجّه إلى سورية الجديدة. ووعي هذه المرحلة هو المفتاح الذي يعزز «شروط التفاوض»، وهو في الواقع أولى «أولويات أيّ حوار» سيفضي إلى الحلقة الأخيرة من المرحلة الانتقالية: استلام قوى المعارضة والثورة للسلطة في عموم البلاد. هل نحتاج إلى «مايسترو» يحقق التناغم بين الأشواط المتفاوتة التي قطعتها هذه المنطقة من سوريّة أو تلك؟ هذه المهمّة أو تلك؟ بالتأكيد. وعليه أيضاً أن يضع الخطط الاستباقية لإدارة تفاصيل هذه المرحلة، ومن أهمّها صياغة العقد الاجتماعي الجديد في مناطق سوريّة الجديدة، وتطبيقها. * كاتب سوري