مبدأ التأجيل لا يستأصل المشكلة، ولكن يتعهدها إلى حين. هذا المبدأ بعينه هو لعنة الإنسان. وأي امرئ يألف التأجيل ويستمرئه، يعني أنه يملك رصيداً لا بأس به من المتراكمات. وهذا على ذاك، تكبر كرة الثلج ويتضخم حجمها حتى يتعذر تفكيكها. لذلك مشكلاتنا لا تجد حلاً... ولذلك هي تنتقل من خانة المشكلات إلى تصنيف الأزمات. وبالعموم رفيق التأجيل هو امرؤ لا يأبه بالقلق ولا بضمير المسؤولية. لأن الصوت الداخلي لو كان عالياً ومسموعاً فتأكد أنه سيكون المنغِّص الأول على صاحبه، إذ يحرمه الاستمتاع مهما حاول. وتأثير الضمير بإشارات التنبيه شيء إيجابي على ألا يتجاوز الحدود المعقولة، فالقلق الصحي غير الآخر المرضي، وإن كانا ينتميان إلى الجذر نفسه. فإذاً مَن وُهب نعمة الضمير اليقظ والعقل الذي يحتقر الإهمال، فلن يهنأ له بال سوى بتنظيف ملابس الحياة مما علق بها من بقع ولطخات متسخة، وقد ينجح في إزالة بعضها، وقد لا يوفق مع البقع المستعصية، لكنه لا يفتر يحاول. ولذلك يكون محيطه أقل تعقيداً وأكثر ترتيباً وتنظيماً من محيط غيره. هذه الطباع تلازم صاحبها، فقل لي كيف تعيش في بيتك، وكيف تتخذ قراراتك في أبسط أمور حياتك، أقل لك كيف ستكون عليه حياتك خارج أسوار بيتك. هذا النموذج هو إنسان مجتمع اليوم والمسؤول عن تأمين بيت ومجتمع ووطن. ولك أن تقيس مدى أمان هذا التأمين! وبالعموم، الرجل العربي يعشق التأجيل و «التطنيش» حتى أوصلنا إلى حالة الانفجار، ثم فقدنا البوصلة في لملمة شظايا الانفجار لاحقاً. وما معظم النار إلا من مستصغر الشرر. ولو كنا بارعين في «حلحلة» الأمور «أولاً بأول» براعتنا في تشبيكها، لكنا شعوباً خبرت معنى الحياة. فالحياة نعمة أكبر من أن يفهمها التافه والبليد والجاهل العنيد... الحياة نعمة لا يستشعرها المحروم المشغول بالاقتتال على الصغائر. وهذا ما كان منا وما صرنا إليه. فهل ما مضى علّمنا درسنا لما هو آتٍ؟ لا يبدو ذلك على الإطلاق. بل كأن الغيّ وفوضى الهمجية قد سرت دماؤهما في شعوبنا فاستعرنا وتبربرنا وصرنا أسوأ. والمضحك أننا نحاور بعضنا بعضاً ونتأفف من أحوالنا ونتحسر على أخلاقنا، كأننا خارج مسؤولية هذا الدمار. حسناً جداً، لو كنا جميعنا بهذا الفهم والتحضّر والرقي الارستقراطي، فمن أين عمَّ الخراب؟ ومن أين هبطت علينا السوقية؟ أمّا الجواب فهو من نفاقنا المتأصِّل، ومن الجَمل الذي لا يرى سنامه. فلو كان جهادنا النفسي والإصلاحي حقيقياً لما احتجنا الى كتابة مثل هذه المقالة. لكننا أدمنّا الكلام والانتقاد حتى نسينا أننا جزء من بقية النسيج نفسه. يصر الفيلسوف جان جاك روسو على أن العقل والقلب إنما يشتركان معاً في تكوين القاعدة الأساسية الأكبر، التي تدفع الإنسان لمعرفة نفسه والعالم من حوله. لكنه لا يرى أيضاً بافتراض ضرورة «خنق» مطالب طبيعتنا الإنسانية انصياعاً لأوامر المنطق وحده. فماذا تقول أنت في هذه الفلسفة حين تستوعبها بعمق؟ ألا تبتسم لها بألم؟ فنحن من خنق مطالبَ طبيعتنا الإنسانية بلا ثمن وبلا منطق. فعلى الأقل من خنقها باسم المنطق كسب «حتة منطقاية»، لكن ماذا كسبنا نحن؟ وانظر إلى السائق العربي كيف يقود سيارته وسيأتيك الجواب! لنترك العقل جانباً، وعالم المعرفة جانباً آخر. فالعقل هو المرشد بحكمته ونضجه هذا صحيح، غير أننا في أزماتنا المُعسِرة، وفي قضايانا وحيرة قناعاتنا يمكننا الوثوق بلغة الإحساس وتوجيه الحدس. وهما أداة آبائنا وأجدادنا على أية حال. ولهم معهما أكثر من حكاية تُروى بعِبَرها. فأين ولّت هذه الأحاسيس؟ وأين فرّ حدسنا منا؟ أين تلاشى الصوت؟ لِمَ لَمْ نعد نسمعه! ما الذي طغى عليه؟ فإن كان العقل غائباً، وإن كان المنطق ضائعاً، وإن كان الشعور سائحاً، فكيف تكون نهضتنا؟ وفي مناسبة الاعتدال لا بد لأمتنا من قامات عظيمة ذات أفكار ورؤى وطروحات ومواقف... قامات تكون صادقة ومخلصة و «لا تعرف التأجيل»، فلا تدّعي كمالاً ومثالية زائفة ومحفوظة، ولكن تصرّ على صدقها وإخلاصها في التنوير لمجرد التنوير. فيكفيها فخراً وخلوداً التزامها ب «تنويرها» للقضاء على قذارة البقع المستعصية. [email protected]