تحت ضغط التظاهرات الشعبية المعارضة، تراجعت حركة "النهضة" في تونس عن تمسكها بشكل الحكومة التي أرادتها بعد انتخابات المجلس التأسيسي، وتخلت عن الحقائب "السيادية" رغم أن زعيمها راشد الغنوشي اعتبر سابقاً أن مثل هذا التخلي يعني الرضوخ لمؤامرة على الثورة. وتحت ضغط القضاء، المترافق مع تحرك شعبي مستمر، تراجعت جماعة "الإخوان المسلمين" عن إجراء الانتخابات النيابية بأي ثمن وفي اسرع وقت. رغم أنها حاولت أن تلتف على القضاء، بعد المعارضة ومطالبها، معتبرة أن هذا الاستحقاق الانتخابي هو الذي سيعطيها الشرعية المطلقة في التشريع، وليس مجلس الشورى الذي يتولى هذا الأمر حالياً وفي غياب مجلس النواب. في الحالين، سجل الإسلام السياسي تراجعاً أكيداً بعدما أبدى شهية لا تشبع للسلطة والسيطرة على مؤسساتها. وفي الحالين أيضاً، لا يمكن رد هذا التراجع إلى حس ديموقراطي أو إشراك المعارضة في ترتيب شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية. إذ أبدى كل من "النهضة" و"الإخوان"، في مرحلة سابقة، الاستعداد لكل أنواع التحالفات، بما فيها الإسلام الأصولي والسلفي الجهادي، المعادي بالتعريف للديموقراطية والانتخاب، من اجل مواجهات التيارات الليبرالية والمدنية، سواء في الشارع أو في صندوق الاقتراع. ومع توقع استمرار وضع سياسي متأزم ومنفتح على احتمالات التصعيد والمواجهة مجدداً بين الحكم والمعارضة، في تونس ومصر، يمكن أن يعزى التراجع الذي اقدم عليه الإسلام السياسي إلى اعتباره أن ميزان القوى الداخلي يفرض هذا التراجع. أسباب رئيسية ثلاثة قد تفسر اختلال ميزان القوى لغير مصلحة الإسلام السياسي. السبب الأول هو الشراهة إلى السلطة والتي أبداها الحكام الجدد، على نحو كشف نياتهم في الهيمنة والسيطرة من دون شريك فعلي من جهة. ومن جهة أخرى، فشلهم المريع في إيجاد أي حل، ولو موقت للأزمات السياسية والمعيشية المتراكمة. فبدا الإسلام السياسي فاشلاً في الحكم، بما أبعد عنه ناخبين منحوه ثقتهم في البداية، معتبرين انه سيكون نموذجاً معاكساً لما قامت الثورة عليه. وليكتشفوا أن طريقة ممارسة الحكم لا تختلف كثيراً عن نهج الاستئثار السابق، اضافة إلى فقدان برنامج للحكم وقلة الخبرة في إدارة شؤون البلاد. السبب الثاني يكمن في ثبات المجتمع الأهلي والمدني في موقفه من قضية الديموقراطية ورفض الديكتاتورية. وباستثناء شخصيات انتهازية لا تمثيل شعبياً لها، لم يتمكن الإسلام السياسي من اجتذاب أي من الأحزاب المدنية والليبرالية والعلمانية. لا بل ازدادت وتيرة الاعتراض على مشروع الدولة "الدينية" التي أرادها الإسلام السياسي. وبقيت شعارات الحرية والمساواة في المواطنة والحقوق المدنية تدوي في الشوارع التونسية والمصرية على نحو متزايد وتستقطب مزيداً من المحبطين من تجربتي "النهضة" في تونس و "الإخوان" في مصر. أي أن الصمود في مواجهة موجة "الدولة الدينية" زاد المجتمع المدني قوة ومنعة. السبب الثالث، وربما الأهم، هو أن الإسلام السياسي لم يتمكن من اختراق مؤسسة الجيش، في تونس ومصر. وهذا يعني، انه لم يتمكن من استحواذ آلة قمع وبطش في مواجهة المعارضة، ولم يستطع أن يفرض بالقوة ما عجز عنه سلماً. وأظهرت تجربة اللجوء إلى الشرطة أن هذا الجهاز المشكوك في ولاءاته ونوعية تسليحه وتنظيمه غير فعال في مواجهة الحركة الاحتجاجية. في حين أن مؤسسة الجيش في تونس ومصر أعلنت مراراً، وكلما دعت الحاجة، أنها تقف إلى جانب المطالب الشعبية التي قامت الثورات على أساسها. وأنها لن تنحاز إلى طرف سياسي داخلي على حساب آخر. أي أن المؤسسة التي كان يمكن أن تقوم بالدور القمعي للتطلعات الشعبية "خذلت" الإسلام السياسي، وبقيت على حيادها حتى الآن. علماً أن هذا الحياد هو الذي ساهم في إسقاط النظامين اللذين قامت الثورة من اجل رحيلهما.