في العام 1931 كانت السينما قد صارت ناطقة منذ عامين على الأقل، لكن ذلك لم يُغر واحداً من كبار فناني الفن السابع في ذلك الحين، وهو شارلي شابلن، الذي كان اعتاد كتابة افلامه وإخراجها وتمثيلها وأحياناً إنتاجها بنفسه ناهيك عن كتابة موسيقاها. بالنسبة الى شابلن، كان فن السينما يعني فن الصمت والحركة والإيماء ونظرات العيون التي، إذ تُصوَّر، يمكن ان تقول ألف حقيقة وحقيقة. شابلن كان منذ البداية ضد ان تتحول السينما من الصمت الى الكلام، وسيستمر في موقفه هذا طوال سنوات مقبلة. ويقيناً انه حين قرر، اخيراً، ان على افلامه ان تنطق مثلما تنطق بقية افلام الناس، كشف الى حد كبير عن انه كان أصلاً على حق في موقفه، وعلى الأقل في ما يتعلق به هو شخصياً اي بحضوره على الشاشة الكبيرة. وذلك لأن واقع الحال سيقول لنا لاحقاً وبعد ان استكمل الفنان الكبير انجاز متنه السينمائي ان أضعف أفلامه كانت تلك التي نطقت، اما اقواها فلسوف تبقى دائماً افلامه الصامتة. فأفلام تشارلي شابلن مذ نطقت راحت على الفور تفقد نكهتها الأولى وسحرها، حتى وأن كان من الصعب الحكم عليها بإنها قد فقدت في الوقت نفسه قوتها التعبيرية وقدرة صاحبها على ابتكار المواضيع، وتمكنه من وضع الشخصيات في اطار ذي دلالة دائمة. ونعرف ان هذه الدلالة هي التي جعلت من افلام تشارلي شابلن بعض اكثر الأفلام إنسانية العمق في تاريخ فن السينما. فن القرن العشرين بامتياز. في العام 1931، إذاً، وفي وقت كان مئات الملايين من رواد السينما في طول العالم وعرضه ينتظرون متلهفين افلاماً تنطق امام اعينهم وآذانهم، قدّم شارلي شابلن واحداً من روائعه السينمائية، مصرّاً على ان يكون صامتاً، مثل العشرات الطويلة والقصيرة التي سبقته. وكان الفيلم الجديد في عنوان «اضواء المدينة»، ونعرف ان عبارة «اضواء المدينة» راح منذ ذلك الحين يستخدم كتعبير سيستعار مراراً وتكراراً بعد ذلك، وفي شتى المعاني والمناسبات. مهما يكن من أمر هنا، علينا ان نبادر منذ البداية لنشير الى امر هام وهو انه على رغم ان سينما تشارلي شابلن كانت توحي حتى ذلك الحين على الأقل، ما ان تذكر، بالهزل والفكاهة، فإن فيلم «اضواء المدينة» يبدو في نهاية الأمر فيلماً حزيناً، ولا يخفف من حزنه كون عنوانه يعد بكل ذلك القسط من الضوء. فأضواء المدينة، بالنسبة الى شابلن وفي فيلمه هذا بالتحديد، اضواء خادعة مزيفة، لا سيما ان بطلة فيلمه، الفتاة التي يجب على المتشرد شارلو (شابلن) ان يحبها كما يحدث له في كل فيلم آخر من افلامه، فتاة عمياء غير قادرة على التمتع بذلك الضوء الموعود. ومن هنا يتأرجح الفيلم بين الحزن والفرح، بين الضحك والكآبة، بين النور والعتمة وبشكل كان جديداً في ذلك الحين. لكنها لم تكن المرة الأولى التي يلجأ فيها شابلن الى هذا الأسلوب في مجمل الفيلم، كانت فقط واحدة من مرات اولى ينبع فيها الحزن والفرح معاً، من شخصية اخرى في الفيلم غير شخصيته. في هذا الفيلم الطويل، الذي تلعب فيه دور «حبيبة» شارلو، الفاتنة فرجينيا شيريل، يواصل شارلو سيرته كمتشرد أفّاق يعيش متنقلاً من مكان الى آخر ومن موقف الى آخر. إذ ها هوذا هذه المرة على الشاشة امام أعيننا من جديد ذلك العاطل من العمل، الذي يحدث له ذات ليلة ان يلتقي بائعة زهور فقيرة سرعان ما يتبين له انها عمياء. وهو في الوقت نفسه وفي الليلة نفسها، يرتبط بصداقة ستبدو بعد لحظات غريبة من نوعها، مع ثري مليونير غريب الأطوار يتسم بمنتهى درجات الكرم والأريحية حين يكون ثملاً، اما حين يصحو فإنه يتحوّل الى وحش ضار. خلال المرحلة الأولى من الفيلم ولا سيما بعد ان يتعرف الى الفتاة ويحس بانجذاب نحوها كما بواجب ان يعمل شيئاً، اي شيء من اجلها، يحاول شارلو خوض مهن عدة، فيعمل في جمع القمامة أولاً، ثم ملاكماً محترفاً، لكي يحصل على شيء من المال يساعد به حبيبته على اجراء عملية جراحية قد تنقذها من العمى. لكنه في الحالات كافة يفشل، ما يدفعه الى ان يأخذ من صديقه الثري - حين يكون هذا قد شرب مقداراً كبيراً من الخمر حوّله الى رجل طيب وكريم في الوقت نفسه - مبلغاً كبيراً من المال يأمل في أن ينقذ وضع حبيبته به، لكن الرجل يدرك، إذ يفيق من سكره، ما حدث فيشي بصديقه الشريد الى الشرطة التي تقبض على هذا الأخير وتودعه السجن. وفي السجن يمضي صاحبنا فترة يخرج بعدها ليجد ان فاتنته الحسناء قد شفيت من مرضها وصارت قادرة على الإبصار. وبالطبع لا تعرفه الفتاة لأنه لم يكن قد سبق لها رؤيته. اما هو فإنه اذ يشعر بأنه سعيد من اجلها وسعيد لهذا النور الجديد يشع في حياتها، يستنكف عن كشف حقيقته امامها ليتابع مسار حياته مبتعداً عنها، في انتظار غرام مقبل و...فيلم مقبل. كما أشرنا، من الواضح ان هذا الفيلم يتسم بمسوح تراجيدية خالصة، وإن كان يضم بين الحين والآخر - وكما ينبغي لفيلم شابلني ان يكون -، بعض المشاهد واللقطات الهزلية الخالصة، التي وحده هذا الفنان الكبير والإستثنائيّ، كان يعرف كيف يدمجها وسط فيلم مأسوي من هذا النوع. واللافت هنا ان شابلن، على رغم ان الفيلم صامت، حرص على ان يستفيد الى حد ما من الاختراعات الناطقة الجديدة، فأضاف إلى لغته السينمائية المعهودة، موسيقى ومؤثرات صوتية لعبت دوراً في الفيلم لا بأس به. كعادته في افلامه السابقة، اشتغل شابلن هذه المرة ايضاً على اسلوب سينمائي يقسم فيلمه الى فصول لكل واحد منها عالمه. ومن هنا كان يمكن للناقد الفرنسي الكبير جورج سادول عند حديثه عن «اضواء المدينة» ان يقف ليعدد «الفصول» التي «لا يمكن نسيانها» في هذا الفيلم: الافتتاح الصاخب، اول الفيلم، لتمثال الازدهار الذي سرعان ما نجد شخصاً نائماً عند قاعدته، لنكتشف انه المتشرد شارلو الذي يبدو واضحاً ان دلالة حضوره تزعج القوم المحتلفين- مشهد اللقاء بين المتشرد وبائعة الزهور، حيث انها سرعان ما تعتقد انه ثري وابن عائلة نبيلة حين ينزل من سيارة صديقه الغني- مشهد الثري السكير حين يريد ان ينتحر فإذا به يربط حجراً بحبل الى عنق شارلو بدلاً من عنقه ويرمي به في الماء- اللقاء الأخير بين شارلو الخارج من السجن والفتاة وقد صارت مفتحة العينين، انها الآن تشاهد بدلاً من الشاب الأنيق الذي كانت تعتقده حبيبها، متشرداً بائساً عاطلاً من العمل يسخر منه الصغار، ومع هذا فإنها تتعرف اليه في النهاية وتقول له: «الآن صار في وسعي ان أرى». لقد شكّل هذا كله عالماً شاء شابلن ان يعبّر من خلاله عن التفاوت الاجتماعي في اميركا، في ذلك الحين حيث كانت الأزمة الاقتصادية الخانقة قد بدأت تضرب الطبقات المتوسطة والبائسة سواء بسواء، ولقد فُهم الفيلم على ذلك النحو، على رغم ان مبدعه حاول قدر امكانه ان يقدم اطروحته الاجتماعية، والسياسية ربما، خلف قناع الهزل وحكاية الغرام. ولم يكن هذا، جديداً، بالطبع على شابلن الذي، منذ بداية امساكه مقاليد افلامه ومواضيعها بين يديه، حرص على ان يقدّم، على الدوام، وبشكل متفاوت الوضوح، نوعاً من التوليف الذكي بين الهزل الذي يتقنه والرصد الاجتماعي الذي كان يشغل باله، هو الذي عاش طفولة بائسة في ازقة لندن العتيقة قبل ان ينتقل ممثلاً مراهقاً مبدعاً الى الولاياتالمتحدة حيث رافق السينما منذ بداياتها وأبدع افلاماً قصيرة ومتوسطة، قبل ان يحقق سلسلة من افلام طويلة ستظل من اروع ما عرفه فن السينما، ومنها: «الصبي»، «الأزمنة الحديثة»، «أضواء المسرح»، «الديكتاتور»، و «البحث عن الذهب». [email protected]