كان ذلك أواخر العام 2005 قبل اسبوعين من اعياد الميلاد، وبعد ثلاث سنوات من ذلك الظهور الصاخب المدهش له في دور بيل الجزار في تحفة مارتن سكورسيزي «عصابات نيويورك»... اما المكان فالفضاء بين مراكش في الجنوب المغربي والعاصمة الفرنسية، على متن الطائرة التي كانت تقطع مسافة الثلاث ساعات من دون اضطرابات. كنا في الدرجة الاقتصادية مع عدد قليل من الركاب، فالموسم لم يكن سياحياً، أما معظم الركاب فسينمائيون فرنسيون من الذين كانوا – مثلنا - عائدين لتوّهم من المشاركة في مهرجان مراكش السينمائي الذي كان اختتم اعماله الليلة السابقة. كانت مجرد ثرثرة حول الأفلام والمهرجان لا يقطعها ما هو استثنائي، ولكن فجأة اطلت قامة ممشوقة من خلف الستار الفاصل بين درجتنا والدرجة الأولى. صاحب القامة نظر مبتسماً كما لو انه يحيّي الركاب ثم سأل المضيفة شيئاً. ونحن لم نكن في حاجة الى تفكير طويل قبل ان ندرك ان صاحب القامة والابتسامة والتحية ليس غير الممثل الذي كان حديث المهرجان من دون ان يراه احد. كنا جميعاً نعرف ان دانيال داي لويس بين ضيوف المهرجان المراكشي، لكنه كان نادر الظهور طوال ايام المهرجان، واعتذر عن اية لقاءات صحافية وكذلك عن المشاركة في اية احتفالات، «ليس ترفّعاً»، كما سيقول لاحقاً، بل لأنه كان يصطحب معه في زيارته زوجته ريبيكا وطفليه، وأراد ان يخصص لهم كل الوقت لزيارة مراكش وغيرها. اراد ان ينسى لأيام انه ممثل شهير، وأن عليه ان يستجيب الى الصحافة والى السينمائيين والى اهل المهرجان. دردشة في الفضاء هذا الكلام لم يقله داي لويس لأحد خلال المهرجان، بل قاله على متن الطائرة لكاتب هذه السطور. فالحال انني حينها ما إن «اكتشفت» وجوده بيننا حتى اقتربت منه محيّياً سائلاً إياه بتهذيب عما اذا لم يكن الممثل الإنكليزي دانيال داي لويس... ابتسم بود مصحّحاً: «بل الممثل الإرلندي... والإنكليزي بعض الشيء إذا احببت». ضحك وضحكت متفهماً ثم قدمت له نفسي وقبل ان أبلغه اعجابي بفنّه ولا سيما بدوره الكبير في «عصابات نيويورك». وفي تلك اللحظة بالذات كان من حظي ان أثنيت بقوة على الفيلم الذي كان يشارك به في مراكش ونال عنه جائزة افضل ممثل هناك «انشودة جاك وروز»... ولسوف أتنبه بعد ثوان الى ان ما فعلته كان رمية من غير رامٍ... ما فعلته، ازال على الفور اي حاجز يحول دون التمتع بصحبته خلال ما تبقى من زمن الطيران بين مراكش وباريس... ذلك أن داي لويس قبض بسرعة على معصمي من دون إنذار وجرّني في شكل مباغت الى حيث تجلس مخرجة الفيلم ريبيكا ميلر صارخاً بودّ وتعاطف: «ريب... هذا السيد ناقد سينمائي عربي من لبنان ويبدو انه احب فيلمك كثيراً الى درجة انه نسي انني انا بطله!». وقفت السيدة مرحّبة بي وهي تنظر بدهشة تحاول ان تستوعب هذه الهجمة من بطل فيلمها... وكانت دهشتها اكبر من دهشتي. دعاني الى الجلوس بينهما مقدماً اياها هذه المرة كزوجته وأم اطفاله و... مخرجة الفيلم. طبعاً كنت اعرف ذلك وأعرف ان ربيكا ابنة الكاتب الأميركي الكبير آرثر ميلر – الذي اشتهر شعبياً كواحد من ازواج مارلين مونرو خلال حقبة من حياته، لكن ريبيكا لم تعرف فاتنة هوليوود طبعاً، لفارق السن -، ومن هنا لم يفاجئني وجودها والصغار معها ولئن كنت فوجئت بردّ فعله على اشارتي الى اعجابي بالفيلم، فإن الثواني التالية سرعان ما اتت لتشرح كل شيء. فبسرعة بدا ذلك الفنان أليفاً طيباً حاضر الذهن و... صريحاً. صريحاً الى درجة افهمني معها سرّ «احتفاله» بي على تلك الشاكلة ورغبته في ان تشارك ريبيكا في «الاحتفال»: في المرات القليلة التي ظهر فيها خلال المهرجان وقابل صحافيين او معجبين، بالكاد تحدث اليه احد عن «انشودة جاك وروز»، كما ان قلة من الناس رغبت في ان تقابل مخرجة الفيلم. وحتى بعد عرض الفيلم والإعجاب اللطيف به، وعلى رغم دوره الرائع فيه، لم يشأ احد ان يلتفت الى مخرجته. كان الكل يريده هو ان يكون النجم. طبعاً قالت لنا هي خلال الحديث التالي انها لم تبالِ بذلك، وأن من الطبيعي للجمهور ان يهتم بالنجم العالمي، ولا يأبه كثيراً بفيلم مستقل صنع أصلاً كمشروع عائلي صغير... في هذه اللحظة استعاد دانيال دفة الحديث ليقول انه هو شخصياً يعتبر دوره في الفيلم اساسياً في حياته وأنه احب الفيلم الى درجة انه اراد من الآخرين ان يحبوه. «هل لأن مخرجته زوجتك؟» سألته، فأجاب بحماسة: «لو لم تكن زوجتي وشاهدت فيلمها لتزوجتها من فوري»! هنا خبطته هي على كتفه وقهقهت في ضحكة متواضعة قائلة: «لو لم تكن زوجي لما تمكنت من تحقيق الفيلم!». على رغم كل تلك المقدمة الواعدة بسرعة، بدا لي واضحاً ان داي وزوجته لا يريدان ان تكون الجلسة جلسة حوار صحافي... وآية ذلك انه راح يطرح عليّ اسئلة اكثر مما يجيب عن اسئلتي... كان يريد ان يعرف أشياء كثيرة، عن فلسطين، عن لبنان عن الإسلام عن الإرهاب وعن بن لادن الذي ما إن ذكر اسمه حتى اخفض من صوته مازحاً... وكذلك طرح اسئلة كثيرة حول السينما العربية والسينما الإيرانية، وسألني ما اذا كنت اعرف كياروستامي... ثم سألني عن السينمائيين العرب وكيف يعيشون ومن اين يموّلون افلامهم؟... سألني بخاصة عن يوسف شاهين، وكان يبدو راغباً في التفاصيل. ثم فجأة وكأن خاطراً ما راود ذهنه، سألني: هل شكسبير معروف كثيراً في العالم العربي؟ والحال ان هذا السؤال نقلنا الى حديث طويل عن شكسبير قال لي هو خلاله انه تربى تربية شكسبيرية وأمضى حقباً كثيرة من حياته يقرأ شكسبير ويمثل ادوار مسرحياته... وأفادني هنا بأنه اعتاد ان يهتم كثيراً في كل بلد يزوره بأن يعرف مدى تأثر الناس بشكسبير... فهو كاتبه المفضل «وكان كذلك كاتب ابي المفضل... والكاتب المفضل لدى والدتي وجدّي...». وهنا إذ ذكر هذا الاستطراد، نظر اليّ وكأنه يتوقع مني ان اسأله عن هؤلاء الثلاثة... إذ بدا انه لم يشر اليهم صدفة. نظرت اليه في شيء من الحيرة المرتبكة وأنا احاول ان افهم شيئاً متسائلاً بيني وبين نفسي عما اذا كان ما يقوله عابراً او يعني به شيئاً معيناً، لكنه بسرعة أخرجني من حيرتي قائلاً ببساطة: «يبدو انك لا تعرف ان والدي كان شاعر البلاط الإنكليزي سيسيل داي لويس». هنا بدت على وجهي مفاجأة حقيقية تنبه هو اليها فبان شيء من الانتصار على وجهه، ليتابع: «ولعلك ايضاً لا تعرف ان والدتي هي الممثلة الشكسبيرية جيل بالكون؟»... ثم اردف بثالث مفاجآته وقد بدا على محيّاه استمتاع طفولي لذيذ بهذه «الكشوفات»: «وهي ابنة المنتج الإنكليزي المؤسس سير مايكل بالكون... الذي تدين له السينما الإنكليزية بأروع انتاجاتها بما في ذلك بعض افضل قديم دايفيد لين!!». وهنا، قبل ان اربط الأمور ببعضها بعضاً... قال وهو ينظر الى زوجته مرحاً: «لكنك، يا صديقي، عرفت بسرعة ومنذ البداية، ان ريب ابنة آرثر ميلر!... عزيزتي لقد حقق لك صديقنا ثأراً مني... أليس كذلك؟». اندماج في تلك الأثناء كنت أجمّع اسئلة عدة في ذهني اود ان امرّرها، لعلي اخرج من الجلسة، على رغم كل شيء بحوار مثلث... فانتقلت الى الحديث عن فيلم ريبيكا متسائلاً عن مكانه في مسار السينما الأميركية الجديدة، وقلت لبطله انه كان فيه على سجيته اكثر مما في اي فيلم آخر له... فقال لي لأن الدور يشبهه ومن هنا كان من اسهل ادواره... هو الذي كان معروفاً عنه انه يتلبس ادواره باندماج يصل احياناً الى حافة الحالة المرضية. في «انشودة جاك وروز» كان الدور يتطلب منه ان يكون مريضاً بالفعل ومحتضراً «وهذا سهّل الأمور علينا... عليّ». والمؤسف انه حدث تحديداً عند هذا المستوى من الحديث وقد خيّل إليّ انني سأفوز بالحوار الصحافي، ان قائد الطائرة راح يعلن اننا بدأنا الهبوط في مطار باريس وأن على كل واحد من الركاب ان يعود الى مكانه. اما رييبكا فأعلنت ان عليها الآن ان تهتم بالصغار... وانتهت الجلسة، وقد حييت تلك العائلة اللطيفة وتبادلنا ارقام الهاتف واعداً اياهما بأنني حين سأكتب مقالاً عن فيلم «انشودة جاك وروز» فسأرسله اليهما مترجماً الى الإنكليزية... ولا اذكر اليوم اذا كنت فعلت او لم افعل! في ذلك الحين لم يكن دانيال داي لويس قد اصبح مثلّث الأوسكارات بعد، فهو قبل «مراكش» كان نال اوسكار افضل ممثل مرة واحدة عن «قدمي اليسرى» لكريستي براون (1989)، ثم بعد ان حقق الإعجاب الضخم الذي نعرف بدور بيل الجزار في «عصابات نيويورك» (2002) فائزاً عنه بجائزة «البافتا» الإنكليزية بين جوائز اخرى، نال في العام 2007 ثاني اوسكاراته عن تحفة بول توماس اندرسون «ستكون هناك دماء». اما اليوم، فها هو يحقق مأثرة سينمائية تاريخية لا سابق لها بنيله، الذي كان متوقعاً بقوة على اية حال، اوسكار افضل ممثل عن دوره الرائع في «لنكولن» لستيفن سبيلبرغ، مكرساً نفسه، من جديد، وفي الخامسة والخمسين من عمره، واحداً من اعظم ممثلي السينما في تاريخ الفن السابع، وذلك على رغم قلة عدد الأفلام التي تطبع مسيرة بدأت متسارعة لكنها سرعان ما تباطأت بحيث انه منذ عام 1998 لم يمثل إلا في خمسة افلام... ولكن اية أفلام!