اتهمت «لجنة التحقيق حول أعمال العنف في سورية» التابعة للأمم المتحدة، الحكومة والمعارضة بارتكاب جرائم حرب في البلاد. لكن، وبما أن تلك اللجنة لا تمتلك صواريخ، ولن تحرك جيوشاً على الأرض، يبقى موقفها مجرد ثرثرة في نظر الحكومة والمعارضة... والرأي العام على السواء. بل هناك من يدفع الموقف أبعد: هي ثرثرة لأنها لا تغير في ميزان القوى الميداني. هذا أولاً. وهي ثرثرة لأن العنف والانفلات صاحبا كل التحولات الكبرى في التاريخ، وما يجري في سورية من استباحة أمر عادي! وهو سيُحتسب بعد انتهاء القتال، وستُعاد كتابة وقائعه بناء على هوية المنتصر. أليس التاريخ يكتبه المنتصرون؟ تلك مواقف تنطلق مما تراه الواقعية لتصل بسرعة إلى الاصطباغ بسينيكية كئيبة. لكن عطبها ليس في هذا، بل في طبيعة تأثيرها في الواقع. فهي تساهم في إشاعة مفهوم يعتبر أن كل «ما يقع» مشروع موضوعياً، وحتمي، طالما هو وقع (وتستعاد بيسر مدهش قصة قايين وهابيل، ونظرية «هكذا هي البشرية منذ وجدت» الخ). وهي بذلك تغطّي (وإن لم تقصد) الجنوح الأكثر غريزية إلى ارتكاب أبشع الأعمال من قبل من يمتلك القوة العنفية. فيفوت بناء نظام مرجعي للقيم، إذ يُسخَّف ويُعتبر ترفاً وحذلقة مثقفين وشعراء حساسين. والأخطر أنه لا تُرى فائدته أو وظيفته، فيُظَن أنه ثانوي، أو سيحين وقت التفكير فيه في ما بعد. لكن فوات بناء نظام مرجعي ضابط للقيم لا يُحِل محله الفراغ بل طغيان قيم أخرى مرتبطة بالسطوة والإجبار والقسوة، «شريعة الغاب»، تمييزاً عما يفترض أن تكون عليه المجتمعات الإنسانية. وفي مثالنا، ولتغطية جرائمها، استخدمت السلطة في سورية جرائم القوى الميدانية المعارضة لها. هي كاذبة وهم كاذبون، هي منتهكة وهم منتهكون. وهذا يحيل المواجهة إلى صراع بين متشابهيَن، يتساويان في السوء، وينتميان إلى المنظومة نفسها، تلك التي تنشد الغلبة بأي وسيلة وبأي ثمن. عندها يشيع سؤال «ثم ماذا؟» ويصبح مشروعاً. بل يحمل ذلك كله تبريراً للحفاظ على الوضع القائم، حيث تراث التوجس والمحافظة في الوجدان العام («والسيء الذي تعرفه أفضل من»...، الخ) أقوى بكثير من الميل إلى التغيير. وليس عبثاً ولا مجاناً ما لوحظ من إجراءات اتخذتها السلطة في سورية لدفع المعارضة نحو التسلح، ونحو رد الفعل الانتقامي والثأري بعد أفعال طائفية وحشية، بغرض استقدام شبيهها في الجهة المقابلة، وبعد تسهيل الأمور للمقاتلين من التنظيمات السلفية، سوريين وغير سوريين، وغض النظر عن حركتهم وانتقالهم إلى البلاد وداخلها، واعتقال أو إخفاء واغتيال كل الكوادر السياسية والفكرية التي أنتجتها وأنضجتها التجربة، أي مرحلة الصراع السياسي السابقة، وتهجيرها حين تعذّرت تصفيتها، وأمثلة كوادر التنسيقيات شديدة الوضوح لهذه الجهة، وكذلك مطاردة شخصيات مثل ميشيل كيلو والتنكيل بها، أو اعتقال عبد العزيز الخير وإخفائه... فقد كانت السلطة تنظِّم مسرح العمليات الملائم لها، ذاك الذي تعرف جيداً كيفية التعامل معه وتُحسن خوض القتال فوقه. بهذه المعاني كلها، تنتمي قوى المعارضة المرتكبة لفظاعات إلى دائرة الماضي، وليس إلى المستقبل، ولو نجحت في إطاحة السلطة القائمة وحلت محلها، بينما يرتضي الناس دفع ثمن باهظ من أرواحهم وأملاكهم واستقرار حياتهم أملاً ليس باستبدال سلطة بأخرى، بل بالتغيير نحو شروط حياة أكثر كرامة وإنسانية. وبعكس ما يظن «الواقعيون» التبريريون هؤلاء، فحلم الحياة الأفضل قوة محركة في التاريخ، تلهم الحركات السياسية، العفوية والمنظمة، كما الفكر والخيال. وهي غالباً ما تُهزم، سواء هزيمة صريحة أو عبر التحوير وطغيان التعبيرات والتأويلات الأكثر رجعية ومحافظة من ضمنها. وهو ما يتبدى بقوة في المسار التاريخي للأديان مثلاً، فهزيمة الحلم لم تحمله على الاختفاء أو الزوال. وهناك منحى آخر مرتبط بهذه الملامح، هو ذاك الذي يؤقلم مواقفه وإداناته واستنكاراته على هوى مصالحه في المنازلة السياسية. وهو يخفي الجرائم التي يرتكبها معسكره، أو يغلّفها بالنسبية والتخفيف، أو يبررها في ضوء ضرورات «أكبر» منها. ومن ذلك كل ما يُتداول في سورية. وأما التحجج بمسلك السلطة القائمة وعالم خزعبلاتها، فلا يفيد، ولا يمكن الاستنجاد به لتبرير مسلك القوى المناضلة ضدها. فهو يؤكد انتماء منطق المعارضة إلى دائرة منطق النظام نفسه، وكلاهما إلى عالم الماضي. وهو عالم سهل، لأنه مجسد ومطروق. ومن ذلك أيضاً ما نراه في العراق، حيث كشفت تحركات بعض قواه أن هناك مئات النساء مثلاً، معتقلات في سجون سرية واللواتي يتعرضن للتعذيب والاغتصاب، بحجة أنهن من «القاعدة»، أي إرهابيات قمن بتفجيرات وسط مدنيين من طائفة أخرى، أو خططن للقيام بها. وقد يكنَّ. ولكن هل يعني ذلك استباحتهن؟ واستباحة البريئات منهن بجريرة الإرهابيات؟ قد يستحققن الإعدام! ولكن بناء على حكم من المحكمة، يكون صادراً بعد جلسات مرافعة نظامية وفعلية وعلنية، وتنظر إلى الأمور من كل وجوهها. هذا مسلك خطير تنتهجه السلطة القائمة، وهو باب عريض لتأجيج الاستقطاب الطائفي والمظلومية المقابِلة، وللدفع نحو تعميم أشنع الممارسات. في العراق، يجري اغتيال القضاة والمحامين حين يدافعون عن متهم لا تستهويه قوى الأمر الواقع، السلطوية منها والمعارضة. هناك تسييد لمنطق الغلبة والانتقام، مما لا يبني إلا حرباً أهلية كامنة أو متفجرة. ومن علامات الانتماء إلى قوى التغيير والمستقبل، ومن المحفزات على حلول التغيير وبزوغ المستقبل، إدانة البشاعة، بغض النظر عن معسكر مرتكبيها أو ضحاياها. لا يمكن بناء شيء من دون امتلاك القيم المرجعية الصارمة التي تسمح باستنكار الظلم بوصفه ظلماً من أي مكان جاء، وعلى من وقع. لكن أهمية ذلك ليست في متعة تشكيل هوية أصحابها فحسب، بل في دورها في تشكيل ملامح المجتمعات التي تمارَس فيها. صون قوة استنكار وإدانة الظلم والإجحاف والإهانة يستند إلى تعريف تلك الآفات بمعايير قيمية عامة وموضوعية. وهو لا يمكنه أن يستقيم إذا مورس انتقائياً، وفق الأهواء والمصالح الحزبية والسياسية. عندها يكون اسمه الصراع على الغلبة وليس على التغيير.