المواجهة كلمة يحبها المخرج التركي رئيس شليك وفعل يسعى إليه، فإن لم تتم المواجهة سواء تعلقت تلك بالعلاقة بين الرجل والمرأة أو برحيل رئيس بلد «فلا يمكن إدراك الأمور». فيلمه «ليلة الصمت» أثار النقاشات حيث عُرض. في برلين مثلاً كان السؤال: متى ستحل هذه المشكلة في شرق العالم؟ أما في قريته التركية فكان: متى ستحل هذه المشكلة في إيران وأفغانستان... «كل فرد يظن أن ذلك يحدث في مكان آخر. ثمة رغبة دائمة لإسقاط مشاكلنا على الآخرين مع أن اعترافنا أولاً بوجود المشكلة عندنا يمكننا من بناء رؤية أخرى للعالم» كما يقول لنا. «المشكلة» التي أراد المخرج التوقف عندها تتجلى في كون الناس ضحية وضع عام، فالرجال بنوا إمبراطورية للسيطرة على النساء لكنهم باتوا ضحايا ما بنوه. «ليلة الصمت»، أبعد ما تكون عن الصمت! يصور الفيلم زوجين في ليلة واحدة فقط على مدى ساعة ونصف. إنها ليلة زفاف قاصر وكهل، الزوجة الصغيرة تحاول إرضاء رجلها أو بالأحرى «سيدها» على هواها الذي لا يتناسب بالضرورة مع هواه. تسكب له الماء ليتوضأ، تجلب له المكسرات وتطلب منه أن يروي لها حكاية المرأة الثعبان «شهرمان وحبيبها كهمش»... تتحايل عليه ببراءة الأطفال وشيطنتهم كي تبعد اللحظة التي تخشاها... فيلم يدور في مكان مغلق ويطرح بكل رهافة، السؤال حول الضحية والجاني، ويأسر متابعه بإنسانية شخصياته وبحواره المكثف. حين قدَّم رئيس شليك للجمهور فيلمه الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان فزول الدولي للسينما الآسيوية حذرهم «سأصحبكم إلى الأناضول وأحبسكم في غرفة وأترككم وسنرى إن كنتم ستستمتعون أم لا؟». لقد استمتعنا واستمتعنا جداً، لهذا التقينا المخرج كما قلنا له. حين قلت إنك ستحبسنا في غرفة، خشيت من ملل قد يعترينا ومن مسرحية سينمائية، لكن هذا لم يحصل ولو لثانية! - (مبتسماً) منطقتنا هي منبع ألف وليلة وليلة، لهذا نعرف فن القص! كيف جاءتك هذه الفكرة وكيف عملت على السيناريو لجعله مشوقاً هكذا؟ - أميل بشدة للعمل على المواضيع الاجتماعية لا سيما ما هو مخفي منها ويعتبر من المحرمات، كما أحب تناول القضايا السياسية والتطرق إلى الجوانب الدينية والتقليدية في هذا المجتمع، ولهذا السبب وقعت في بعض المشاكل مع الدولة والمؤسسات الدينية التي تطرح الأسئلة حول أفلامي. وأنا أظن أن هذا هو دور الفن. مسألة الزواج بقاصر والرجال الكبار في السن والمزواجين هو من المحرمات التي رغبت في طرحها على بساط البحث. غالباً ما نتناقش مثلاً حول حقوق المرأة ولكننا لم نواجَه أبداً بالسؤال حول الأسباب التي أدت بنا إلى الوصول إلى هذه الحال. كانت هذه الفكرة الدعامة التي بنيت عليها السيناريو. لطالما فكرت بمواضيع ثم فيما بعد أقوم بتطويرها في ليال عدة. وهذا الفيلم كان نتيجة تفكير طال سنوات لكنني كتبته كاملاً في ليلة واحدة. تعلمين في الشرق فإن الحكايا تحكى في ليلة وأنا لست سيناريست، أنا حكاء! استنكار هل تقصدت اختيار فتاة عمرها ثلاث عشرة سنة؟ حين عُرف عمر الفتاة في الفيلم سرت همهمة استنكار لدى الجمهور الفرنسي، لكن أحداً لم يتطرق إلى هذا في الحوار معك! - تقصدت هذا العمر نعم. أما الأسئلة فيصعب على الناس طرحها، هم يفكرون بقضية ما ويودون الحديث عنها ولكنهم ينتظرون من الآخرين البدء. وما إن يستهل أحدهم بطرح السؤال الجيد حتى يتحرك الباقون. هكذا، تبدأ الثورات! لقد قرأت أسئلة عدة في وجوه الناس ولو كنت أتكلم الفرنسية لخلقت ثورة هنا! هنا! أي نوع من الثورات تود خلقه؟ - ثورة لتجديد العلاقة بين الرجل والمرأة ومواجهة الوضع. في شكل عام لا يرغب أحد بتحمل عبء المشكلة أو بتحريك الأمور، نرغب ببقائها هادئة. إنما يجب أن يشعر أحد ما بالمسؤولية ويحدد نوعية المشكلة لحلحلة الأوضاع. لهذا الغرض أنجزت الفيلم. سأعطيك مثلاً، في حال سورية الكل يرى أن المشكلة هي في رحيل الأسد، ثمة مشاكل كثيرة لا يريد أحد النظر إليها ولا رؤيتها، فرحيل الرئيس ليس المشكلة. لكنه جزء منها! - نعم جزء، إنما لا يجب التخلي عن رؤية كل المشاكل الباقية ومناقشتها. لنعد إلى الفيلم فما أشرت له حديث طويل سيحرفنا عن المسار. لم تحدد زمناً للفيلم! - حتى الشخصيات والأمكنة لا اسم لها، الفيلم يمكن أن يكون في كل زمان ومكان. أداء بطل الفيلم (الياس سلمان) كان رائعاً وقلت إنه هجر التمثيل منذ عشرين سنة وإنك أردت إرجاعه، لِمَ هو بالذات؟ - أنا ضد إبعاد بعض الممثلين من قبل الحكومة بمعنى وضع العصي في دواليبهم ومحاولة عزلهم بعيداً من الحلقة الرسمية والتطورات التي تقرب البعض وتبعد البعض الآخر. أردت التعبير عن رفضي لمواقف كتلك. هذا الممثل كان معروفاً جدا في تركيا وتوقف عن التمثيل لمدة عشرين عاماً أي منذ انقلاب 1980، وأقنعته بالعودة. إنه موقف أصر عليه وقد أعدت ممثلين آخرين إلى دائرة الضوء وأحدهم «تونجل كورتيز» بات اليوم نجماً في تركيا. على سيرة النجوم، هل أنت على دراية بنجاح المسلسات التركية في العالم العربي؟ هل تعتبر الأمر إيجابياً أم سلبياً؟ - لا أرى الأشياء من وجهة النظر هذه أي سلبية وإيجابية. المسلسلات حال قائمة والناس ترغب بالتسلية والتمتع، في السابق كانت المسلسلات البرازيلية، واليوم التركية وثمة ممثلون جيدون يعملون فيها ومصورون يتدربون عبرها. لِمَ لا؟ هذا شيء إيجابي إذا أردت! أما السلبي فالمسلسلات تدفع باتجاه انعزال الناس، فهم ينغلقون أكثر فأكثر في أفكارهم ويغدون سلبيين أمام التلفزيون ولا يفكرون أو يفعلون شيئاً آخر. لكنها كالموضة، كالريح التي تعبر... ما هي الموضة المقبلة؟ لقد سئمنا تلك! - هذا هو بالذات ما أردت مواجهته، تطور القصص والحالات. الناس يخلقون نظاماً ما ويبقون داخله وفي وقت ما يتعبون من خلقهم فيشعرون برغبة العبور إلى منحى آخر. العبور إلى أين؟ إلامَ تريد العبور بعد هذا الفيلم؟ - في هذه اللحظة لا أدري! قد يأتيني الوحي في ليلة ما. ثمة أمر أنا متأكد منه ألا وهو ميلي لتحفيز الناس على التفكير والنقاش. لدي موضوع أفكر فيه منذ زمن طويل حول الإنسان والحمار. فما الذي يجعل هذا إنساناً وذاك حماراً؟ يشترك الاثنان بالروتين اليومي من أكل ونوم وجنس... باختصار أود التفكير لمناقشة هل يدفعنا العقل الذي نختلف به للتطور أم للتراجع. لم نسألك التعريف بنفسك في البداية، أود أن تقوم بذلك بطريقتك. - أعتقد أنني كائن إنساني يختلف عن الحيوانات (مبتسماً)، أريد تجاوز مرحلة الإيمان بالأديان وبالأيدلوجيات التي يؤمن بها الناس من دون تفكير، وأرى نفسي في هذا العالم الحديث كإنسان قديم جداً يتجول في الصحارى وفي الأناضول كدرويش قديم. (ثم مضيفاً) ولكن ليس على الجمال بل بالطائرة! وما هي علاقتك مع الجمهور التركي، كيف يرى أفلامك؟ - في البداية كان هناك الكثيرون ثم بعد اعتيادهم على مشاهدة الأمور الفارغة ابتعدوا عن هذه النوعية من الأفلام. ربما أيضاً لأن الناس لا تحب الدراويش في أيامنا! - أوافقك لسببين. أولاً لأنهم ليسوا على الموضة، وثانياً لأننا نتطرق إلى مواضيع لا يحب الناس مناقشتها، هم لا يرغبون برؤية أنفسهم عراة في الحياة الحقيقية. المجتمع هو من خلق هذا السعي للمحافظة على كل ما هو مخفي. وما هو مخفي يجب أن يبقى كذلك! ثمة لغة خاصة للسينما التركية. - بدلاً من سينما تركية أفضل القول سينما من تركيا فهذا أكثر شمولاً فهناك أيضاً السينما الكردية والعربية... نعود إلى الحديث عن سورية - لا أفكر مثلما يفكر كثيرون في تركيا. سورية مثل تركيا بلد إسلامي عصري. والسؤال الذي يجب طرحه يتعلق في ما بعد رحيل الأسد وإن كانت ستُبنى سورية أكثر عصرية أو أفضل؟ أنا ثوري بطبعي وأرى أنه على ثوار سورية أن يبنوا بلداً أفضل، إنما هل الطريقة المناسبة هي إعطاء السلاح وإدخال مقاتلين ليقوموا بما قاموا به؟ هل أعطى التدخل الأميركي في العراق ديموقراطية أفضل؟ يفضل ترك الشعب ليقوم لوحده من دون تدخل خارجي. لذا، أنا ضد أي تدخل إمبريالي في وضع كهذا، بيد أن ذلك لا يعني أنني ضد الثورة، لكن عليها أن تقوم من الداخل. هذا ما حصل أولاً! - منذ خلق إسرائيل وهي تريد تدمير من حولها: تركيا، سورية... وسؤالي هو: بالنظر إلى ما يحدث اليوم هل نحن ندمر النظام أم نحاول أن نفعل ما تفعله الدولة الإسرائيلية منذ أكثر من خمسين عاماً؟