كاتب عظيم لكنه غير مشهور، وهذا لا يضره، فما كتبه سيبقى لأنه حي ينبض، لأنه وطن مستقر، وجرح متجدد. حسن حميد، يكتب في الظل، لا يهمه الضوء، في وقت تعرّض له أقوام فأصبحوا عراة، لهذا لن تجد أمامك رجلاً متأنقاً، ولا وجهاً حليقاً، ولا تباهٍ كاذب. إنه رجل آمن بالكتابة، وشعر أنها تخلد الوطن، وتخفف الفقد، وتؤثث الحنين، وترمم ما تبقى من جدران الذاكرة. عاش في كنف المخيمات، الطفولة عند حسن حميد كتاب، وكل طفل وإن لم يكن كاتباً فلديه كتاب يخصه، يظل يقرأ منه ويستحضره دائماً. طفولته كانت مختلفة، ولد في 1955 في قرية «أكراد البقارة» بفلسطين، بالقرب من جسر بنات يعقوب، ثم انتقل إلى الجولان قرب الحدود، قرب الأرض.. أسرته لا كتب فيها ولا أقلام، والداه أميان، لا علاقة لهما بالقراءة، حسن حميد لم يعرف الكتب خارج المنهج إلا في المرحلة الثانوية، إذ أشار له معلمه أن يقرأ ما ترجمه المنفلوطي، ظناً منه أنها من متطلبات الدراسة، ثم تعلق، ثم شهق عندما اشترى كتاب «ألف ليلة وليلة» بعد تخرجه من الثانوية، ذلك الكتاب الذي قام بتغليفه بورق الجرائد حتى لا ترى والدته الصور العارية، فتظن أن ابنها انحرف، جاء إلى عالم الرواية بعد أن طوى محبته للشعر والرسم، فكف عنهما، واستفاد من تقنيتهما ككاتب، فأخذ من الشعر الصورة والتكثيف والتلميح والمقطعية وتعدد النهايات والتصعيد الدرامي والالتفاتات والتلبث والاستباق والاسترجاع والتصوير والاستشراق والتأمل، وأخذ من الرسم التفاصيل الزوايا الكتل تدافع الألوان وتجاوزها والثنائيات وتضادها، كما أنه استفاد من المسرح الحوار المنفرد والحوار الجمعي والتعاقب وخصوصية الشخوص، كما استفاد من تقنيات السينما التداخل والتخارج والمونتاج والقطع والتكرار الفني الموظف. ثم أتى إلى الكتابة يتكئ على مخزونٍ معرفي، وتراث هائل وأصيل، وكونه فلسطيني فإن الكتابة بالنسبة له «مضاد حيوي ناجح للهاث النفس وتعب الروح»، لهذا لن تجد في أغلب رواياته وقصصه سوى الوطن، يقول: «يكبر الناس في أوطانهم، لكن الفلسطيني يكبر وطنه فيه.. أكبر دافع لي للكتابة كان يمثل «التراجيديا» الفلسطينية، فالغربة والمنفى وشظف العيش والحنين والقلق والخوف من المستقبل كلها لم تكن حارقة مثل الفقد، فالفقد لوثة أصابت البيوت، فطار الأبناء مثل الطيور حالما قويت الأجنحة. حالة الفقد كانت موجعة ومرمدة للنفوس والأرواح، وهذه «التراجيديا» هي التي دفعتني إلى الكتابة كما أظن، وحتى أرضي نفسي وعقلي في آن قمت بالتعبير عن موهبتي من جهة، والتعبير عن أفكاري ومشاغلي وغاياتي وانفعالاتي، في مقابل أن يخنقني الحنين إلى الوطن من جهة أخرى» لهذا كان الإرث والتاريخ والرمز، في «جسر بنات يعقوب» ، وكانت النكبة وآثارها في «أنين القصب»، ثم كانت النكسة في «الونّاس عطية»، وكانت القدس وكان المقدس ورحلة الروح والشوق الذي لا ينتهي في «مدينة الله». الحكايات والأساطير هما النبعان الأكثر حضوراً في كتاباته، وبلده هي أم الحكايات التي لا تنتهي. العمق هو ما يميز رواياته، لهذا نجده على علاقة وطيدة بالفلسفة والتراث والأسطورة، وهناك تكسب رواياته قيمة عالية. هذا هو المضمون عند حسن حميد، أصيل وعميق، وله قيمة أدبية راقية. يقول: «الرواية التي تتبنى القضايا الكبرى، الإنسان، التاريخ، المستقبل، عليها أن تكون شديدة المصداقية من الناحية الفنية، وأن يكون المنطق حارساً لها، وأن يكون الجمال هو الهواء الذي يشع من جوانبها، وأن تكون المتعة والمسرة طي أسطرها». بالنسبة للشكل والتقنيات الفنية، فرواياته متفردة في هذا الجانب، فمن يقرأ لحسن حميد، «جسر بنات يعقوب» أو «أنين القصب» أو «الوناس عطية» ستلفت انتباهه الهوامش والتذليلات والملاحق والحواشي، وهو بذلك يهدف إلى تخفيف السرد، والاحتفاظ بالقارئ حتى الصفحات الأخيرة، نتيجة ما تثيره هذه التقنيات السردية من شوق وإثارة، ومن يلقي نظرة على رواياته سيدهش من شكل النص قبل أن يلج عوالمه. حسن حميد ليس من الجيل الذي وجد نفسه أمام الكتابة والسقوط المدوي، بل عكف منذ صباه على المعرفة والتحصيل، والنظر في كتب الفلسفة والفن، عكف على ذلك عقوداً من الدهر، ثم كتب روايته الأولى «جسر بنات يعقوب»، بعد أن عتقته الكتابة، ودفعه الظل، فكتب بعد الأربعين روايته تلك، وتوجت بفوزها بجائزة نجيب محفوظ في 1999. كتابة الرواية عند حسن حميد عمل شاق، هو شديد الصرامة مع نصه الذي يعمل عليه، لهذا لم يحصل أن نشر نصاً وندم عليه. رواية «جسر بنات يعقوب» التي كانت نتيجة سؤال انقدح فجأة، وهو «لماذا سمي الجسر بهذا الاسم؟» ظل يبحث أعواماً ولم يجد إجابة، فقرر أن يجيب على هذا السؤال، وقد أخذت الإجابة من عمره ثمانية أعوام، فكتب هذه الرواية. ثم كانت تجربته «أنين القصب» حيث الوجع والنكبة، حيث يتضح فيه مدى نضال الكاتب، عندما يكون النضال بالقلم، فالمكان المحتل لا تيأس محاولات الكتابة عن إزاحته وطرده ومحوه، لهذا يهرع إلى خلق المكان، القرية، الريف، السوق، الحركات، المكان بتفاصيله الدقيقة، بأصواته وروائحه، بضجيجه، بأصالته، بعراقته، وصف دقيق يشعرك بعظمة المكان وتجلياته، وتجذره في الروح والذاكرة. «الونّاس عطية» الحنين، الأحلام، الآمال قصيرة الأجل، النكوص إلى الخيبة والفقد، خريطة «الخيش» المعلقة على قماش كاكي يعج بالمدن والقرى والأسوار والأسلاك الشائكة، الخريطة التي لم يعد أحد يهتم لأمرها. تقرأ كل هذه التفاصيل، وكأنك تحضر بدء الخلق، كأنك تنظر إليه، تشعر بمتعة ولذة واشتياق وسر الكتابة وعظمة التتبع وقرب الضوء ونبض المكان. وهنا نتذكر صاحب «لذة النص» وحديث المتعة، واللذة التي تنشأ من قلب اللغة، واليد التي تكتب وتدهش، لنعلم مدى غموض هذا الأمر، وسر المتعة التي لا يعلم سرها إلا الله. يتحدث حسن حميد في حوار له عن زاده، ومصدر قوته ونضجه وعمقه فيقول: «أسلحتي ككاتب، هي ثقافتي وأسئلتي ومصداقية أفكاري وتاريخي وحضارتي وتقنياتي الفنية وأسئلتي الدائمة عن الرواية، وتطورها كفن عالمي، وقراءاتي الكثيفة جداً التي تجعل من روايتي جهة للمرجعية التاريخية والثقافية والإبداعية وجهة للمتعة والجمال والرقي باللغة». لماذا الكتابة عن حسن حميد؟ كتبت عن حسن حميد، على رغم أنه ليس بحاجة أن يكتب مثلي عنه، ولكني وجدتني ملزم بالكتابة عن أديب استمتعت بأدبه، وتعلمت من نتاجه أشياء لها علاقة بالكتابة، والأدب، والفن. أديب بعيد عن الشهرة والأضواء لم تنشر أعماله بشكل واسع، مما جعل نتاجه غير متداول، في المقابل هناك جيل من الشباب الذين يتحرشون بالكتابة، لم يقرؤوا له، أو ربما لم يسمعوا به، جيل - وأنا منهم - بحاجة ماسة للعزلة، والقراءة المكثفة، والأسئلة، والمثابرة على الكتابة، وعدم الظهور في وقت ربما يحترق فيه. جيل رأى في الكتابة موضة، وتصدي للضوء والشهرة، والتمسح بمنصات التوقيع، والتأنق أمام الكاميرات والفلاشات، واستجداء اللقاءات والحوارات، جيل يطفوا على نتاج بارد، باهت، ضعيف، هزيل، خديج، نتاج يموت في شهوره الأولى، نتاج لم يجد رحماً مؤهلة، وبالتالي لم يجد أحضاناً كي يعيش.